أعطى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون طرابلس، خلال زيارته لها امس، شهادتين: الأولى بأنها مدينة آمنة ومستقرة ولا توجد أية محاذير تحول دون زيارتها والتجول فيها، والثانية بأنها محرومة الى أقصى الحدود وتتحمل ما لا تطيق جراء وجود النازحين في مناطقها الشعبية المختلفة.
لكن المفارقة، أن بان دخل الى مناطق طرابلسية مهمشة لم يسبق لها أن شهدت في تاريخها زيارة أممية بهذا المستوى، وهي ربما لم تسمع الحكومة اللبنانية باسمها إلا خلال جولات العنف السابقة، ولا يعرفها كثير من التيارات والقيادات السياسية التي لطالما دافعت هذه المناطق عنها وصولاً الى قيام أبنائها بحمل السلاح، حيث يبدو واضحاً أن تقارير الأمم المتحدة حول الأوضاع المأساوية فيها، وأوجاع وصراخ أهلها، قد وصل الى آذان المسؤولين الأمميين، بينما بقيت بعيدة عن آذان بعض المسؤولين المعنيين الذين يكتفون فقط بإطلاق الوعود وإعداد الدراسات التي تبقى حبراً على ورق.
قد لا تغيّر زيارة بان الى طرابلس من واقعها المأساوي، على صعيد الفقر والبطالة والتسرّب المدرسي والمنافسة الأجنبية ضمن سوق العمل والأزمات الاجتماعية والإنسانية، بكبسة زر، خصوصاً أن سياق الزيارة أظهر بشكل واضح، أنها تستهدف النازحين السوريين أكثر من العائلات اللبنانية. وإنما يمكن القول إن هذه الزيارة قد لفتت أنظار العالم الى عاصمة لبنان الثانية المهمّشة على كل صعيد، إلا من المبادرات الفردية التي يقوم بها بعض أبنائها، وهذا من المفترض أن يضعها على جدول أعمال المساعدات الدولية، وأن يفرض على الحكومة الاهتمام بمشاريعها التنموية والإنتاجية التي تستطيع النهوض بأهلها، بما يمكنها من مواجهة الضغوط الهائلة عليها والناتجة عن وجود النازحين السوريين في ربوعها.
منذ الصباح الباكر حلقت مروحيات الأمم المتحدة والجيش اللبناني في أجواء طرابلس وصولاً الى عكار، فيما فرض طوق أمني محكم حول المناطق التي سيزورها بان، فشهدت منطقة القبة انتشاراً عسكرياً كثيفاً، مروراً بمحلة البقار وصولاً الى مركز الشؤون الاجتماعية في حي الشعراني والذي دشّنه بان بمشاركة الوزير رشيد درباس وحضور أعضاء الوفد الأممي وشخصيات سياسية واجتماعية وعسكرية والعائلات المستفيدة من هذا المركز.
بعد قص الشريط التقليدي، عبر بان عن دهشته مما رآه في تلك المناطق، مؤكداً سعي الأمم المتحدة من أجل دعم شعوب المنطقة وتحسين حالتهم الاجتماعية، لكنه ربط ذلك بشرط دعم الدولة اللبنانية. وقال: إن الأمم المتحدة تعمل مع حكومة لبنان لدعم المجتمع وما تقوم به مراكز الرعاية الاجتماعية هام جداً كونه يستهدف فئة من الناس تُنتهك حقوقهم الإنسانية، وأنا مرتاح لزيارتي لهذا المركز ولما يقدّمه من خدمات التعليم والدعم النفسي والرعاية الصحية والاجتماعية، وهذا يدخل ضمن أهداف الأمم المتحدة ومنظماتها العاملة في لبنان والمنطقة.
وعبّر بان عن سعادته بزيارته الأولى الى طرابلس، آملاً أن يراها مزدهرة ومستقرة وآمنة، مطالباً الحكومة والمؤسسات المعنية «الاستمرار بعملها الذي يصبّ في الخير العام للمواطنين والمقيمين».
ثم ألقى رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم كلمة أشار فيها الى «أننا نريد أن نقدم أكبر دعم ممكن للناس في هذه المنطقة، ولقد قدّم لنا وزير الشؤون رشيد درباس لمحة عن عمل وزارته، وقد قدّمنا 25 مليون دولار من المساعدات لتمويل مشاريع الخدمة والرعاية الاجتماعية، ومن الضروري جداً أن يُقرّ مجلس النواب القوانين المطلوبة التي تسمح لنا بتقديم دعم أكبر، ونحن جاهزون ليس فقط في بناء المدارس والمستشفيات، بل نعتقد أن طرابلس يجب أن تكون منطقة حيوية ومنطقة اقتصادية خاصة، ونعمل على ذلك بالتعاون مع البنك الإسلامي».
بدوره، قال رئيس البنك الإسلامي للتنمية أحمد محمد علي مدني: نقدر عالياً جهد لبنان في استضافة النازحين السوريين، معلناً أن البنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية سيرسلان بعثة خلال أسابيع الى لبنان للبحث في كل الأمور والاستماع الى رأي المعنيين لتقدير ما ينبغي تقديمه وتحديد المسائل التي يجب التركيز عليها.
بعد ذلك انتقل الأمين العام بان كي مون الى الميناء عبر منطقة أبي سمراء مروراً بالبحصاص، حيث وصل الى مدخل «حي التنك»، حيث فرضت الأجهزة الأمنية إجراءات امنية مشددة، وقطعت الطرقات وتم إخلاء الكورنيش البحري من السيارات والعربات والبسطات، كما اعتلى قناصة أسطح المباني، في حين تجمع عدد من المواطنين اللبنانيين وبعض العائلات السورية عند أحد أزقة الحي لاستقباله.
وكان من المقرر أن يلتقي بان عائلة لبنانية من سكان الحي وعائلة سورية، لكن اللقاء اقتصر على العائلة السورية التي استقبلته أمام منزلها الكائن عند مدخل حي التنك، وتحدثت إليه عن معاناتها بسبب نزوحها واضطرارها مرات عدة إلى ترك منزلها، بسبب عدم قدرتها على دفع بدل الإيجار، وقد أكد لها بان تضامنه معها وشعوره بحجم المعاناة التي يتكبدها النازحون في دول الشتات.
لكن بان ما لبث أن التفت الى الأطفال السوريين وحرص على الحديث معهم وممازحتهم، وسؤالهم عن دراستهم وحياتهم وعن طموحاتهم، وخاطب أحد الأطفال بالقول: «يجب أن تدرس جيداً وتكون إنساناً فاعلاً في مجتمعك، وربما تصل لتصبح أميناً عاماً للأمم المتحدة».
وبعد لقاء العائلة السورية غادر بان من دون أن يجتمع مع عائلة لبنانية كما كان مقرراً، ما ترك حالة من الاستياء في صفوف سكان الحي الذين كانوا يأملون أن يدخل إليه، ويشاهد معاناتهم، لكنه اكتفى بالنظر الى عمق الحي من بعيد.
بعد ذلك، انتقل بان والوفد المرافق الى ملعب طرابلس الأولمبي، حيث كانت المروحية التي أقلته من بيروت الى مطار القليعات صباحاً بانتظاره، حيث أقلعت عائدة الى بيروت.