المدير والناظر يتعاركان على جدول الحصص. الأساتذة يراقبون. عيون الأهالي مسمّرة. الطلاب بين قاعات التدريس والملاعب. فيما النيران تلتهم المكتبة وما حولها، مهدّدة المدرسة بمن وما حوت.
هذه حال لبنان اليوم. كباش سياسي بين القصر وبيت الوسط. الثنائي المعروف ومعهما التيار البرتقالي مشتبكون على صيغة تنتج حكومة مرضية، لناحية رئيسها وصيغتها وتركيبتها وأعضائها. باقي الأحزاب بين المتابعة والضغط. الناس بين شاشات التلفزة والشارع، فيما مصالحها وأعمالها وشركاتها ومحلاتها تنازع البقاء في انتظار أن تفتح البنوك أبوابها.
آلاف الشيكات المرتجعة. مئات الأطنان من البضائع في المرفأ تنتظر الافراج عن الاعتمادات المصرفية لتغادره. سلع بدأت تفقدها الأسواق ترنو إلى موافقات واعتمادات جديدة بالدولار لتأخذ طريقها إلى لبنان. كذلك الأمر بالنسبة للمواد الأولية التي نفدت من مخازن المصانع. مؤسسات جديدة تغلق أبوابها، وعديدها بالمئات. نظيرات لها تصرف موظفيها، أو تخفّض رواتبهم. الدولار أصبح كلبن العصفور، إن وجد فأسعاره تتغيّر بين دقيقة وأخرى. البلاد ما عادت تحتمل.
بقاء هذا الوضع على حاله، لا بدّ من أن ينفجر أزمات وعنفاً اجتماعياً. فتح أبواب المصارف بالطريقة التي حصل قبل الاضراب العام للموظفين، لن يكون مجدياً. فروع المصارف ستبقى مهدّدة بأمنها.
حدوده القصوى القيام بمقاصة بين البنوك وتأمين آليات دفع الرواتب لهذا الشهر. ستضطر الشركات والمصانع، ساعتئذن إلى الاختيار بين أمرين: إما الإقفال، وفي هذا كارثة. وإما اللجوء إلى الصرّافين لتأمين الدولار، وفي هذا مصيبة. ستتسع السوق الموازية، ويحلّق الدولار إلى حدود 2500 إلى 3000 ليرة. واقع إذا طال أمده، سيدفع بالليرة إلى غياهب التاريخ. تصبح عملة غير متداولة. هو النموذج الفنزويلي يلوح في الأفق.
السيناريو الثاني أن تفتح المصارف، معزّزة بسيولة محدودة يؤمّنها البنك المركزي. يجري الحديث عن مليار دولار. خطوة كهذه من دون حل سياسي صادم، إيجابياً طبعاً، وفي ظل اقتصار تطبيق مبدأ إغلاق الحدود المالية، أو ما يُعرف بالـ Capital Control، عملياّ على أموال الناس، من دون أن يضع حداً نهائياً لتحويل الأموال إلى الخارج، ستؤدي إلى زيادة قلق المودعين وسحب كل ما يستطيعون من ودائعهم لتخزينها في المنازل.
وعندها لن يكون كل احتياطي البنك المركزي كافياً لتهدئة الوضع. سنكون قد أرجأنا السيناريو الفنزويلي، ولكننا نكون نستنزف تدريجيّاُ احتياطي البنك المركزي.
أما السيناريو الثالث، فأنّ تفتح المصارف أبوابها معززة بسيولة مفتوحة من المصرف المركزي تحت ستار طمأنة المودعين. وقتها نكون كمن أطلق النار على قدمه، ويعني أنّ حالة الإفلاس الفكري قد سبقت الإفلاس النقدي. لن يحصل ذلك بالتأكيد، ذلك أنّ خطوة من هذا النوع، وإن كنا سنشتري بها شهرين أو ثلاثة من الاستقرار المالي، لكننا سنصل في نهايتها إلى وضع تكون فيه الدولة، ومعها المجتمع بكامله، في حالة إفلاس تام، ويكون النظام المالي قد أضاع آخر دولار في حوزته. عندها، سيتحول لبنان سوقاً مفتوحة للتهريب من الدول المجاورة، مثل سوريا وتركيا واليونان. تختفي السوق الرسمية نهائياً، لصالح سوق سوداء، أحدٌ لا يستطيع التبضّع فيها إلّا من كان يمتلك الدولار نقداً.
ما المغزى من كل ما تقدّم. الواقع السياسي المريض هو العلّة، والتغيير، لا الترقيع، هو الدواء. اولوية أي حكومة وبأي شكل تشكّلت، هي استجلاب كتلة نقدية من اية جهة كانت، ضمن سقف التسوية السياسية، تعطي اضافة لاحتياط البنك المركزي، طمأنينة للمودع لكف هلعه. فقط، باستجلاب كتلة نقدية في غضون فترة قصيرة، ولا رفاهية لوقت ضائع، يمكن استعادة ثقة المودعين، وإعادة المنطق والعقلانية لعلاقتهم بالنظام المصرفي الذي يستطيع حينذاك أن يستعيد نشاطه كالمعتاد.
وإذا ما نجحنا في تحقيق ذلك، يجب ألّا ننسى أنّ المدخل الإجباري لأي حكومة جديدة تريد إنقاذ البلد بحق، يبقى قائماً على ركائز ثلاث: وقف خروج الأموال من البلد، لضرب بنية الفوائد وإنهاء سوق الصرف الموازية، ثم وقف الدعم لمؤسسات فاشلة وتخفيض الاستيراد وزيادة موارد الدولة من خلال القضاء على نظام فساد المحميات، ليتم عندها إلغاء عجز الموازنة والتوجّه لبدء بناء دولة مدنية، ولو بداية بالحد الأدنى ضمن المستنقع الإقليمي الحساس الموجود فيه لبنان. إنه ثالوث النجاة، به يحيا ومن دونه الله المستعان غالب.
اما في السياسة، وما يرشح من اشاعات عن مشاورات تكليف وتأليف، يوحي أنّ أهل الحكم لم يعتبروا مما حصل منذ 17 تشرين الأول، وانّهم وأغلب الشعب في واديين متباعدين.