حدّد مصرف لبنان سقف التسليفات المصرفية بالليرة بنسبة 25% من الودائع بالليرة، وسمح للمصارف بإعادة جدولة القروض المدعومة بالليرة إذا جرى تحويلها إلى الدولار. خطوات أثارت ارتباكاً بين المصارف لجهة تفسير أسبابها وطريقة الاحتساب. الثابت أن الخاسر الأكبر هو المستهلك، بعدما انكشف على تضخّم الأسعار البالغ 7.1% في حزيران الماضي وانقطاع أمله في الحصول على قرض سكني
بعد سنتين من مواصلة تنفيذ هندسات مالية «غير تقليدية» أدّت إلى خلق كتلة نقدية هائلة بالليرة، تبيّن لمصرف لبنان أنه يجب تعديل آليات امتصاص السيولة لكبح تضخّم الأسعار المتفاقم والسيطرة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وفق بعض التقديرات، فإن الهندسات التي بدأها مصرف لبنان في 2016، خلقت أكثر من 30 ألف مليار ليرة إضافية فوق الكتلة النقدية السوقية التي تبلغ 78 ألف مليار ليرة. مصرف لبنان فشل في بسط سيطرته الكاملة على هذه الكتلة التي كانت ترتفع إلى أكثر من 83 ألف مليار ليرة ثم تنخفض تبعاً لوتيرة امتصاص السيولة. أدواته المالية وآلياته المعروفة لم تتمكن من امتصاص كل هذه الكتلة. نتيجة الفشل ظهرت في حزيران 2018 مع ارتفاع معدل تضخم الأسعار إلى 7.1% مقارنة مع حزيران 2017. قلق مصرف لبنان لا ينصبّ على التضخّم فقط، بل أيضاً على أن تشكل هذه الكتلة تهديداً لسعر صرف الليرة. خروج هذه الكتلة إلى السوق يعني أنها ستموّل عمليات طلب على الدولار. الأسوأ، أن هذا التضخم يأتي مع نموّ ضعيف، ليشكّل الأمر ما يسمّى «الركود التضخمي» أو (Stagflation). يعبّر هذا المصطلح عن «عاصفة كاملة» من الأخبار الاقتصادية السيئة لأي دولة، والتي تشمل ارتفاع البطالة وبطء النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم.
حدود للإقراض بالليرة
في هذا الإطار، أصدر مصرف لبنان التعميمين 503 و504. التعميم الأول موجّه إلى المصارف والمؤسسات المالية، وقد نوقش في المجلس المركزي لمصرف لبنان في جلسته المنعقدة بتاريخ 8/8/2018، وهو ينصّ على أنه: «لا يجوز أن يزيد صافي التسليفات الممنوحة من المصرف للقطاع الخاص بالليرة اللبنانية عن 25% من مجموع ودائع الزبائن لديه بالليرة اللبنانية. ويتوجب على المصارف إيداع قيمة كل فرق يزيد عن النسبة المحدّدة في حساب مجمّد لدى مصرف لبنان لا ينتج فوائد وذلك لحين تسوية هذا التجاوز. وتمنح المصارف التي تكون في وضع مخالف مهلة حدّها الأقصى 31/12/2019 لتسوية أوضاعها. ويمكن للمصارف التي يتعذر عليها تسوية أوضاعها خلال هذه المهلة، مراجعة المجلس المركزي بهذا الشأن».
أما التعميم الثاني فهو يتعلق بالسماح للمصارف بـ«إعادة جدولة للقروض إذا تم تحويلها لهذه الغاية من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي أو إذا كانت ممنوحة أصلاً بالدولار الأميركي». كذلك ينصّ التعميم على أنه في حال تصنيف القروض التي منحتها المصارف من خلال عمليات الدعم التي يقدمها لها مصرف لبنان ضمن درجة «مشكوك في تحصيلها» أو «رديء» أو في حال توقف المشروع الذي منح من أجله، «تستحق التسليفات الممنوحة من مصرف لبنان».
نتائج سيّئة
التعميمان أثارا جدلاً واسعاً بين المصارف. للوهلة الأولى، يظهر أن مصرف لبنان يريد وقف القروض بالليرة، ولا سيما أن القسم الأكبر من هذه القروض هو مدعوم، أي إنه لا يسعى فقط إلى وقف دعم القروض بشكل شبه نهائي، بل هو يريد أن يوقف أي مفاعيل ناتجة عن عمليات تسليف رديئة أو ستؤدي إلى هلاك القرض أو تصنيفه مشكوكاً في تحصيله. ولكنه يوافق من جهة ثانية على أن يتم تحويل القروض من العملة اللبنانية إلى الدولار الأميركي، ما يوحي بأنه يريد أيضاً وقف أي طلب على الدولار قد ينتج عن وجود كتلة نقدية بالليرة في أيدي المصارف.
المشكلة أن المصارف اختلفت على طريقة احتساب التعميم الأول لجهة نسبة التسليفات ومجموع ودائع الزبائن. ففي أيار 2018 بلغت قيمة التسليفات بالليرة 26600 مليار ليرة، فيما بلغت قيمة ودائع الزبائن بالليرة 82200 مليار ليرة، أي إن نسبة التسليفات تبلغ 32.3% من الودائع. هذا يعني أن هناك 6000 مليار ليرة إضافية يجب على المصارف أن تتخلص منها بحلول نهاية 2019.
بعض المصرفيين يرون أن طريقة الاحتساب يجب ألا تتضمن تلك التسليفات بالليرة التي لا تشكّل ودائع الزبائن مصدرها، بل هي آتية من القروض المدعومة التي منحها مصرف لبنان للمصارف بفائدة 1% بموجب رزم التحفيز القائمة سنوياً منذ 2011. مجمل قيمة هذه المبالغ يصل إلى 7800 مليار ليرة، ما يعني أن المصارف قد شارفت على بلوغ النسبة القصوى التي يحدّدها التعميم (هذا الحساب أجري على الميزانية المجمعة للمصارف، أي إنه يمكن أن تختلف النسبة بين مصرف وآخر بشكل إفرادي)، وليس لديها أكثر من 1500 مليار ليرة لإقراض القطاع الخاص.
قطع الطريق على «الإسكان»
في كلا الحالين، سيتوقف الإقراض للقطاع الخاص بالليرة. مصرف لبنان يشجّع على هذا الأمر. فهو يسمح بإعادة جدولة الديون إذا وافقت على التحويل إلى الدولار. وهذا الأمر فيه خطر على الزبائن، لأنه ينقل مخاطر سعر الصرف من المصرف إلى الزبون. مصرف لبنان يسعى إلى حماية المصارف من مخاطر تقلبات سعر الصرف لو حصلت. وإذا وقع الزبون، فعليه أن يسدّد ديونه بالدولار!
حماية المصارف هي الهدف الأسمى لدى مصرف لبنان، فيما لا يدرج المستهلك على لائحة الحماية في مصرف لبنان. فهذه ليست المخاطر الوحيدة التي ستنعكس على الزبائن والمستهلكين. فالقرار المذكور سيعرقل الحلّ المقترح لأزمة تمويل القروض المدعومة عبر المؤسسة العامة للإسكان. مع هذه التعاميم، لن يكون بمقدور المصارف إقراض الزبائن لتمويل شراء منازل بالليرة، حتى لو حصلت المؤسسة العامة للإسكان على قانون من مجلس النواب يخوّلها الحصول على الدعم من الخزينة العامة.
خلفيات إدارة السيولة
أما خلفيات إصدار التعميمين فهي مدفوعة بعملية إدارة السيولة ونقاط الضعف في نظام يعاني من أزمة بنيوية في اعتماده الكبير على التدفقات بالدولار من الخارج. كل سنة يحتاج لبنان إلى 14 مليار دولار من العملات الأجنبية لتمويل حاجته الاستهلاكية وخدمة ديونه بالعملات الأجنبية. منذ نحو سبع سنوات لم تعد تجد هذه الكمية من الأموال طريقها إلى لبنان. تحت وطأة الحاجة، بدأ مصرف لبنان بتنفيذ عمليات ماليّة مع المصارف ذات طابع «غير تقليدي». اشترى سندات يوروبوندز من وزارة المال بقيمة ملياري دولار وسدّد ثمنها بسندات بالليرة اللبنانية يحملها في محفظته. ثم اشترى من المصارف سندات خزينة مقوّمة بالليرة اللبنانية، بسعر إصدارها، وسدّد نصف أرباحها المرتقبة فوراً، بشرط أن تشتري منه سندات يوروبوندز وشهادات إيداع بالدولار، على أن تسدّد ثمن هذه السندات والشهادات بدولارات طازجة تستقطبها من الخارج… تكرّرت هذه العمليات بأشكال مختلفة بين 2016 و2018، إلا أنه في حصيلتها خلقت كتلة نقدية كبيرة تحتاج إلى التحكّم فيها. فشل مصرف لبنان في السيطرة على كامل هذه الكتلة، مع وجود طلب على القروض السكنية، ومع وجود موجات من الطلب على الدولار.
القلق الأكبر من أن يدخل لبنان في مرحلة «الركود التضخمي»، وهي حالة من أسوأ حالات الاقتصاد التي تعني أن هناك المزيد من الأخبار السيئة في المؤشرات الكلية، مثل البطالة والتباطؤ الاقتصادي والمزيد من تضخّم الأسعار.