يشكّل ملف الاموال المهرّبة الى الخارج، واحداً من التحدّيات الاساسية التي من شأنها اختبار مدى صلابة الحكومة وشجاعة القضاء في تقفّي أثر «المهرّبين» الى ما وراء الحدود الجغرافية والأخلاقية التي تجاوزوها من دون وازع وطني أو شخصي.
ليس خافيًا انّ رحلة البحث عن الأموال المسحوبة الى مصارف أجنبية ليست سهلة، والأصعب منها محاولة استعادة تلك الاموال في مرحلة لاحقة.
وإذا كان الجانب القانوني في عمليات سحب الودائع من مصارف لبنانية الى خلف البحار و«الأخطار» هو موضع تباين بين من يعتبر أنّ تلك العمليات المالية مشروعة، وبين من ينفي عنها الشرعية القانونية، إلاّ أنّ الأكيد هو انّها أتت على حساب حقوق المودعين والتوازن المصرفي، الذي ثبت أنّه كان هشاً ولا يتحمّل فجوة كتلك التي تسبّبت بها السحوبات العابرة للجغرافيا.
والأسوأ في ما حصل، هو التمييز النافر بين «مودِع بسمنة»، استطاع تحويل ودائعه الكبيرة الى الخارج في غفلة من «ليلة ما فيها ضو قمر»، وبين «مودِع بزيت»، احتُجزَت مدخراته المتواضعة خلف «قضبان» المصارف بقوة الامر الواقع ويتمّ إخضاعه الى كل انواع الإذلال على ابواب المصارف قبل التكرّم عليه ببضع دولارات لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
وإضافة الى الخلل الفادح والفاضح على مستوى معياري المساواة والعدالة في التعامل مع المودعين، تواجه الودائع المسحوبة الى الخارج، أو بعضها على الاقل، سؤالًا حول مقدار نزاهتها ونظافتها. إذ انّ هناك من يرتاب من احتمال ان تكون مدموغة بختم الفساد، ما يرتّب على اصحابها تبعات اضافية أشد خطورة وفداحة.
وفي حال نحت الحكومة والسلطة التشريعية في اتجاه اعتماد خيار قوننة «الكابيتال كونترول» او «الهير كات» لاحتواء الأزمة المالية والتعايش معها، فإنّه لن يكون من السهل تبرير اتخاذ اي اجراء من هذا النوع في حق اصحاب الودائع المحاصرة في المصارف اللبنانية، اذا بقيت الاموال المهرّبة طليقة ومعفيّة من المساءلة.
وبينما تؤشر «المسوحات النقدية» الى أنّ حجم الأموال المسحوبة الى مصارف اجنبية يقدّر بـ 2,67 ملياري دولار، كشف مرجع مصرفي موثوق في مجلس خاص، انّه تبين انّ هناك من ضمن هذا المبلغ نحو 175 مليون دولار تعود الى شخصيات سياسية حصراً.
وعند محاولة استيضاح المرجع المصرفي عن هويات اولئك السياسيين الذين تولّوا تهريب هذه الاموال، اكّد انّه لا يعرف من هم ولا علاقة له بهم، لافتاً الى أنّ رأيه هو انّ تلك التحويلات هي «قانونية لكنها ليست اخلاقية».
وفيما تستمر التحقيقات في ملابسات التحويلات، تنصح اوساط مطلعة على تفاصيل هذا الملف «أن يُخاض تحدّي مطاردة الاموال المهرّبة انطلاقاً من إدارة حكيمة وعملية»، مشدّدة على وجوب «استخدام ادوات مدروسة وواقعية للتمكّن من تحقيق النتائج الإيجابية المطلوبة».
وتعتبر الاوساط المواكبة لمحاولات تظهير حقائق الودائع المسحوبة، انّه قد يكون من المتعذّر حالياً رفع السقف الى حدود الإمساك برؤوس كبيرة ومحاسبتها، انما يمكن بالتأكيد البدء من مكان ما ثم التدرّج صعوداً.
وتحذّر تلك الاوساط، من أنّ الاندفاعة العشوائية قد تؤدي الى مردود عكسي لناحية حرق بعض اوراق القوة وبعثرة الجهد في اتجاهات مقفلة، مقترحة ان يتمّ في البداية الإطباق على موظفي الادارة الكبار ممن قد يكونون متورطين في قضيتي الاموال المهرّبة والمنهوبة على حد سواء، «لأنّ غالبية ارتكابات المسؤولين كانت تتمّ عبر أزلامهم وشركائهم في الادارة، وبالتالي لعلّه من الأسهل راهنًا السعي الى الإمساك بطرف الخيط الظاهر ثم تتبعه حتى خلف الستارة لكشف كل الحقائق تباعًا».
وتلفت الاوساط، الى انّه ربما من المفيد درس اقتراح يلحظ تأسيس ما يمكن تسميته «الصندوق الوطني لدعم لبنان»، بحيث يساهم هذا الصندوق في تأمين المخرج أو الإخراج المناسب لتشجيع مهرّبي الأموال وناهبيها على إعادتها عبر نافذته، «لأنّ المطلوب بالدرجة الاولى في هذه المرحلة الصعبة أكل العنب وليس قتل الناطور».
وتنتهي الاوساط الى التأكيد «أنّ إسترداد الاموال المسحوبة والمسروقة من عدمه يتوقف الى حد كبير على طبيعة التكتيك المُستخدم في معركة «تحريرها» واستعادتها.