تميّز القطاع المصرفي اللبناني بالسرّية المصرفية التي كانت مصدر جذب للأموال الوافدة من الخارج. لكن، وبعد الانهيار الاقتصادي والمصرفي والمالي، هل بات لزاماً إلغاء هذه الميزة، خدمة للتدقيق الجنائي ولمعرفة أين تبخّرت الاموال؟ أم هناك خصوصية لبنانية لا يمكن تخطّيها؟
أنجزت اللجنة الفرعية في لجنة المال والموازنة مشروع الحكومة لقانون السرية المصرفية، بعدما أدخلت بعض التعديلات عليه، على ان تعقد جلسة يوم الاثنين المقبل للبت به بشكل نهائي.
رغم انّ السير في مشروع القانون هذا يبدو ظاهرياً يسير بشكل سلس في اللجان، الّا انّ مصادر مطلعة تؤكّد لـ»الجمهورية»، انّ معركة رفع السرّية المصرفية لا بدّ قادمة، مستبعدة ان يمرّ مشروع القانون بهذه السهولة في المجلس النيابي، لأنّه فعلياً يعني انكشاف بعض مكامن الفساد الذي قاده سياسيون نافذون او أحزاب سياسية تشابكت مصالحها مع جهات مالية نافذة. ورأت انّ إقرار هذا القانون يعني فعلياً منع كبار المتموّلين من التهرّب الضريبي، بما يفتح المجال امام السير بمطلب الضرائب التصاعديّة الذي طالما حال النافذون دون تحقيقه، لأنّه يطالهم في الدرجة الاولى. كما يحول هذا القانون متى أُقرّ، دون هروب المتهمين بالإثراء غير المشروع، وهم كثر، من المحاسبة، ويسهّل ملاحقة أصحاب الجرائم المالية.
من جهتها، تسعى لجنة المال إلى توفير أحد مطالب الحكومة للسير قدماً بالاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، وما تعديل قانون السرّية المصرفية سوى واحد من سلّة شروط طلبها الصندوق إلى جانب «الكابيتال كونترول» وإقرار الموازنة وإعادة هيكلة المصارف، على اعتبار انّ هذه المطالب أساسية لاستعادة التوازن المالي في لبنان. اما إقرار مشروع قانون رفع السرّية المصرفيه فيهدف في الدرجة الاولى إلى معالجة تبييض الاموال وتمويل الإرهاب والتهرّب الضريبي، ويتيح الوصول إلى أسماء أصحاب الحسابات المعنية، على ان يلعب لاحقاً دوراً مسهّلاً في عملية إعادة هيكلة المصارف.
إلى ذلك، يبدو انّ في مقابل كل الإيجابيات التي يحملها إقرار هذا المشروع، هناك مساوئ قد لا يتمكّن لبنان من تخطّيها او التعايش معها. وفي السياق، يقول رئيس منظمة «جوستيسيا» الحقوقية المحامي بول مرقص لـ«الجمهورية»، انّ السرية المصرفية ليست شراً في حدّ ذاته بل لها منافع كثيرة إذا لم تقف حاجزاً أمام مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب ولا سيما التهرّب الضريبي، خصوصاً في بلاد مثل لبنان، حيث لا ميزة تفاضلية فيه سوى الحرية الاقتصادية والنظام الليبرالي الذي يحمي خصوصية المودعين، خصوصاً العرب والخليجيين منهم، الذين ينأى البعض منهم عن حكوماته وأجهزة مخابراته ويودع أمواله في لبنان في منأى عن التتبع والملاحقة.
وانتقد مرقص ما يُقال عن انّ الغاية من طرح مشروع القانون هو مكافحة التهرّب الضريبي، متناسين وجود القانون 44 /2015 الذي يهدف إلى مكافحته ويرفع السرّية المصرفية حكماً بمجرد الاشتباه جدّياً بهذه الجريمة ضمن الجرائم المعددة في القانون المذكور، فضلاً عن انّ النص المقترح يحمل تناقضات كثيرة واحكاماً ملتبسة، من شأنها ان تكشف حسابات اللبنانيين أمام بعض الفاسدين في الإدارة والأمن والقضاء، فيجاز لهم الاطلاع على الحسابات من دون معايير او سقوف زمنية ودونما ضمانات، للتظلّم وللدفاع عن المودعين عندما يُساء استعمال كشف السرية المصرفية في حقهم. لذلك يرى مرقص انّ هذا الاقتراح بحاجة لإعادة النظر كلياً، لا بل رفضه وإفهام صندوق النقد الدولي اننا لسنا في دولة حقوق وقانون، حيث التشريعات ضامنة للخصوصية ولحقوق الدفاع وللتعسف في استعمال القانون، وانّ النظر إلى تجارب الدول الاوروبية هو في غير موقعه، إذ انّ للبنان خصوصية من جهة، ولكن ايضاً حكمية غير رشيدة وغير صالحة من جهة اخرى، تحول دون القضاء على السرّية المصرفية، كما يُراد من وراء هذا المشروع.
التعديلات المقترحة
يذكر انّ بعض التعديلات المقترحة على قانون السريّة المصرفية شملت الآتي:
– حظر الحسابات المرقّمة، وهو المعمول به راهناً، لأنّها تخفي هويّة صاحب الحساب الفعلي وتستعيض عنه برقم معيّن بدل الإشارة إلى إسم صاحبه. وبحسب التعديلات المطروحة حاليًّا، يفترض أن يتمّ تحويل هذه الحسابات إلى حسابات عاديّة باسم أصحابها خلال مهلة 6 أشهر.
– السماح للسلطات القضائيّة أو هيئة التحقيق الخاصّة أو أي سلطة أخرى ذات صلاحيّة بإلقاء الحجز على الأموال المودعة لدى المصارف. مع العلم أنّ قانون سريّة المصارف يحظّر هذا النوع من الحجوزات إلّا بموافقة صاحب الحساب، فيما يحصر قانون مكافحة تبييض الأموال هذه الصلاحيّة بهيئة التحقيق الخاصّة.
– إعطاء صلاحيّة رفع السرية المصرفية وطلب الداتا المصرفيّة لكل من: السلطات القضائيّة التي تنظر في جرائم الفساد والجرائم الماليّة، والهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، ومصرف لبنان، والسلطات الضريبيّة المختصّة، بالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصّة.
– تمكين السلطات التي تملك صلاحيّة الحصول على المعلومات المصرفيّة من تبادل هذه المعلومات في ما بينها.
– إعطاء لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان صلاحيّة مراقبة تطبيق القانون، لجهة امتثال المصارف لطلبات المعلومات المصرفيّة الواردة إليها، وإحالة المصارف غير الممتثلة إلى الهيئة المصرفيّة العليا، على أن يكون لدى الهيئة مهلة أسبوعين لاتخاذ الإجراءات القانونيّة في حق المصارف المخالفة.