ثلاثة قوانين ملحة تنتظر المواءمة بين مصالح لبنان والتزاماته
السرية المصرفية تتهاوى تشريعياً.. فداءً للنظام المالي
هل يتسبب امتثال لبنان للنظام المالي العالمي بإلغاء السرية المصرفية؟
قد لا يكون غريباً أن يعرف اللبنانيون أن بلدهم صار مدوّلاً. ليست الرئاسة وحدها المحاصرة بمصالح الدول أو التبعية لها. من يكثر الحديث عن الارتباطات السياسية ـ الطائفية بالسعودية أو إيران يفوته، عن قصد أو غير قصد، الارتهان التام للنظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
الإرتهان المالي ليس جديداً على لبنان، لكنه يأخذ مع الوقت منحىً أكثر تجذراً واستسلاماً، بما يؤدي، عملياً، إلى إنهاء العصر الذهبي للسرية المصرفية التي يتغنى بها لبنان. الأدهى، أن هذا الارتهان لم يعد خياراً، ليس أمام لبنان فحسب، إنما أمام دول كبرى باقتصادياتها ونفوذها كدول الاتحاد الأوروبي. يفضّل أصحاب الاختصاص أن لا يتخيلوا نتائج عدم الامتثال للنظام المالي العالمي، لأن أبسطها إزاحة لبنان عن الخارطة العالمية، وتركه بمصارفه واقتصاده في مهب الريح، وصولاً إلى الإفلاس الشامل أو إلى «التعرض لضغوط دولية من شأنها أن تؤثر سلباً على مركز لبنان الاقتصادي والمالي».
«حزب الله» إرهابي؟
المسؤولون اللبنانيون، كما المصرفيون، اعتادوا سماع نصائح، إن كان من الزائرين الأجانب الذين يمثلون دولاً أو منظمات دولية أو من السفراء المعتمدين في لبنان، تدعو إلى تسريع وضع لبنان على السكة الدولية الجديدة. لم يعلن أي فريق سياسي معارضته لهذه الإجراءات، من حيث المبدأ. أقصى الملاحظات قد تتعلق بضرورة عدم التسليم التام، والسعي، قدر الإمكان، للمواءمة بين الامتثال للنظام المالي العالمي والقوانين والمصالح اللبنانية. حتى «حزب الله»، المتضرر من الحرب المالية التي تشنها الولايات المتحدة على التنظيمات أو الدول التي تصنفها في خانة الإرهاب أو في خانة دعمه، لم يصدر عنه أي موقف يعارض إقرار القوانين المطلوبة دولياً.
يعرف «حزب الله» أنه مستهدف في الكثير من هذه القوانين، التي تتضمن علناً أولوية «مكافحة الإرهاب». تلك إشكالية بحاجة للحسم أيضاً. هل لبنان يلتزم التعريف الدولي او الأميركي للإرهاب أم التعريف اللبناني أو العربي الذي يميز بين المقاومة والإرهاب؟ وإذا كان «حزب الله» إرهابياً بالمعنى الأميركي، فهل هذا يعني أن المصارف اللبنانية مضطرة للسير بالمفهوم الأميركي؟ وبالرغم من القول إن تعريف الإرهاب في القوانين اللبنانية يخضع حكماً للتعريف اللبناني، لكن ذلك، لا يبدو دقيقاً بالممارسة. وقد تأكد ذلك من خلال طريقة التعامل مع التحويلات المتعلقة بطهران أو بسوريا، علماً أن كل مشتبه به بالانضمام إلى «حزب الله»، يكون محروماً، في معظم الأحيان، من التعامل مع المصارف اللبنانية، حتى أن بعض النواب اللبنانيين المنتمين إلى الحزب يجدون صعوبة في فتح حسابات لهم في عدد من المصارف.
ما يجري، يؤكد الحاجة إلى تشريعات واضحة توائم بين متطلبات النظام المالي العالمي ومصالح الدولة اللبنانية، المتمثلة في حماية حرية اللبنانيين في التعاملات المالية ضمن سقف القانون، خصوصاً في ظل العقوبات المعلنة وغير المعلنة التي تطال جزءاً من اللبنانيين، ولاسيما «حزب الله».
أولويات الامتثال للنظام المالي العالمي تتمثل حالياً بثلاثة مشاريع قوانين، ما تزال تنتظر إقرارها من المجلس النيابي، بعد مرور ثلاث سنوات على إقرارها في الحكومة السابقة: «تبادل المعلومات الضريبية»، «تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال» و «نقل الأموال عبر الحدود».
توافق نيابي مصرفي
جمعية المصارف تطالب منذ مدة بتسريع إقرار هذه المشاريع، علماً أن ثمة وجهة نظر كان يتبناها عدد من الاقتصاديين الذين عملوا على بعض هذه المشاريع، وتدعو إلى تأخير الإقرار، طالما أن الحجة موجودة وهي الصراعات والخلافات السياسية التي تنعكس سلباً على عمل المؤسسات. نجح أصحاب وجهة النظر هذه في تسويق فكرتهم، لكن في النهاية، طرح الرئيس نبيه بري المشروعين الأخيرين على جدول أعمال اللجان المشتركة، على أن يصار إلى إقرارهما في أول جلسة تشريعية، فيما المشروع الأول يدرس في «لجنة المال». وبالفعل، شكلت اللجان المشتركة لجنة فرعية مهمتها إعادة دراسة المشروعين، بعد أن تبين وجود اعتراضات وملاحظات نيابية متعددة الانتماءات. عقدت اللجنة الفرعية التي يترأسها النائب ابراهيم كنعان ويشارك في عضويتها النواب نواف الموسوي، جمال الجراح، ياسين جابر، ايلي عون، سمير الجسر وغسان مخيبر، جلسة أولى الأسبوع الماضي، ناقشت فيها مشروع تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال. وتقرر، على الأثر، الطلب من وزارتي المالية والعدل ومصرف لبنان وجمعية المصارف العودة إلى اجتماع هذا الاسبوع بملاحظات مشتركة.
رئيس اللجنة يجزم أن لا خلافات سياسية بشأن القانونين، مذكراً أن تضرر النظام المالي اللبناني من خلال السير عكس التيار العالمي، سينعكس على كل اللبنانيين، بمن فيهم المستهدفون، إذا سلمنا أن القوانين تستهدف فئة محددة. ويوضح أن السرية المصرفية لن تتضرر إذا عرفنا كيف نوائم بين المطالب الدولية والمصالح المحلية ووضعنا قيوداً تضبط إيقاع القوانين، مذكراً أن القيود المطروحة ستميز بين الأموال الشرعية وغير الشرعية. كما يعتبر أن إبعاد شبح الأموال غير المشروعة عن النظام المالي اللبناني هو عنصر قوة لهذا النظام وليس العكس.
وجهة النظر هذه يعبر عنها النائب ياسين جابر أيضاً. إذ يرى أنه لم يعد جائزاً أن يكون لبنان ملجأً للأموال المشبوهة، التي يستفيد أصحابها من نظام السرية المصرفية لإخفاء عملياتهم غير الشرعية. لذلك، يرفض جابر القول إن السرية المصرفية بخطر، مشيراً إلى أن قوننة الموضوع وربط رفع السرية بقرارات صادرة من هيئة التحقيق الخاصة، يعطي حصانة للسرية المصرفية لا العكس. باختصار، يؤكد جابر أن لا خيار أمام لبنان إلا أن يكون جزءاً من الأسرة الدولية.
أما الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر، فيرى أنه لم يعد من الجائز التأخير في إقرار القوانين، خاصة أنها تتضمن قواعد عمل موجودة في كل دول العالم. كما يوضح أن عدم إقرارها سيؤدي إلى وضع لبنان على لوائح سوداء تؤدي عملياً إلى عزلة النظام المالي، وبالتالي إلحاق أضرار هائلة بمصالح اللبنانيين.
تبادل المعلومات الضريبية
ينص المشروع الأول، الذي يدرج ضمن قرارات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) وآلياتها لمكافحة التهرّب الضريبي ويغطّي تبادل المعلومات الضريبية بشأن التهرّب الضريبي لمواطني دول المنظّمة المذكورة، على إعطاء المعلومات الضريبية عن أي شخص مزدوج الجنسية أو أجنبي يعمل على الأراضي اللبنانية إلى سلطات بلاده (تبلغ قيمة الحسابات الأجنبية نحو عشرين مليار دولار). وهذا القانون يشكل المسمار الأول في نعش السرية المصرفية. وقد بدأت مفاعيله مع إلزام الولايات المتحدة لجميع مصارف العالم برفع السرية عن حسابات المودعين من الأميركيين، قبل أن يتوسع ليشمل عدداً كبيراً من الدول. ومع أن النظام المصرفي اللبناني بدأ بتطبيق هذا الأمر بشكل فردي وبدون الحاجة إلى القانون، خاصة أن الجميع يعرف ان لا مفر من تطبيقه. لكن المعركة تكمن في قدرة المشرع اللبناني على أخذ المبادرة والتعامل مع المتغيرات المفروضة من دون المس بميزات نظامه المصرفي، كأن يجعل تبادل المعلومات غير تلقائي إنما عند الطلب، وعلى أن يمر عبر «هيئة التحقيق الخاصة» إذا كانت المعلومات المطلوبة مشمولة بالسرية المصرفية.
تبييض الأموال
أما التعديل المطروح على قانون تبييض الأموال، فيقضي بالتوسع في مفهوم تبييض الأموال، من خلال ضم جرائم يمكن متابعتها في إطار قانون العقوبات اللبناني إلى إطار عمليات تبييض الأموال. كذلك يشمل التعديل إلغاء المادة الخامسة من القانون والمتعلقة بمراقبة المؤسسات الخاضعة للسرية المصرفية للعمليات التي تجريها مع زبائنها لتلافي تورطهم بعمليات تبييض يمكن أن تجري عبر قنواتها. وينص الاقتراح البديل على ضم مهن لا علاقة لها مباشرة بالتحقق من مصادر الأموال، كشركات التأمين والمحاسبين وكتاب العدل والمحامين، وهو ما يتعارض مع القوانين التي تلزمهم بالسرية المهنية. علماً أن الإبلاغ لا يتم في حال التحقق من مصادر الأموال بل بمجرد الشبهة.
والأسوأ أن القانون يقترح إنشاء «هيئة التحقيق الخاصة»، التي فوضت بصلاحيات قضائية وإدارية واسعة بحيث تقضي على السرية المصرفية، من دون أن تعطي المتضرر أي حق للمراجعة أو الاستئناف أو الاعتراض، كون قرارات الهيئة لا تقبل الطعن.
نقل الأموال عبر الحدود
ويواجه قانون نقل الأموال عبر الحدود المعارضة الأكبر من أطياف سياسية متعددة، كونه يقيد دخول الأموال النقدية إلى لبنان، خاصة أن بعض الدول الإفريقية، حيث يتركز الثقل الاغترابي، تعاني من قصور في النظام المصرفي أو نظام تحويل الأموال، إضافة إلى حظر بعض الدول لإخراج الأموال منها، بما يجعل من المتعذر نقل الأموال بالطرق الرسمية. لكن مع ذلك، ثمة من يتوجس من توجيه هذا القرار ضد بيئة «حزب الله» تحديداً، حيث من المعروف أن الأغلبية الساحقة من المتمولين الشيعة يعملون في إفريقيا، وينقلون أموالهم إلى لبنان نقداً. إذ يؤدي المشروع إلى انكشاف وضع جميع الوافدين، كما يساعد على كشف شخصيات متمولة عاملة في إفريقيا تحديداً، بما يعرضها لخطر الملاحقة وتصفية الحسابات السياسية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. وبالرغم من أن للقانون سلبياته، إلا أنه يؤمل في النهاية أن يؤدي إلى حصر أو إلغاء تهريب الأموال، الذي تستفيد منه المجموعات الإرهابية التي تنشط في الداخل اللبناني.
وبالرغم من أن مشروع القانون لا يمنع نقل الأموال النقدية، إلا أنه يفرض على الإبلاغ عن المبالغ التي تزيد عن 15 ألف دولار (يقترح البعض رفعه)، مع إلزام الناقل على الإفصاح عن مصدر أمواله والغاية منها، على أن تنشئ الضابطة الجمركية قاعدة بيانات تتعلق بكل حركة الأموال. ذلك أيضاً يشكل ضربة أخرى للسرية المصرفية كونها تفترض كشف حركة نقل الأموال وناقليها وعملياتهم الاقتصادية، مترافقاً مع خلو مشروع القانون من أي ضمانات تمنع اختراق هذه القاعدة أو تسريب بياناتها لأطراف أخرى. واللافت أن قاعدة البيانات لا تقتصر على الحالات التي تثبت عدم قانونيتها، أي التي تدرج في إطار الإفصاح.
وينص مشروع القانون على استثناء جديد لقانون السرية المصرفية، حيث يحق لـ «هيئة التحقيق الخاصة» رفع السرية المصرفية عن الأرصدة المودعة في المصارف إذا ما ارتكب الشخص العابر للحدود مخالفة عدم التصريح عن الأموال التي بحوزته أو في حالة الإفصاح الكاذب أو لمجرد الاشتباه بمصدر الأموال.