IMLebanon

“غول” السلطة “يحوم” على “جيفة” أصول الدولة

 

“بعزقة” الملك العام في ظل الأزمة لا تُغطّي أكثر من 25 في المئة من خسائر القطاع المصرفي

 

 

أعاد استئناف المفاوضات مع “صندوق النقد الدولي” ملف توزيع الخسائر إلى الواجهة من جديد. ففي الوقت الذي يفترض فيه المنطق تحمل المصارف خسائر توظيفاتها الأساسية في مصرف لبنان بقيمة تتراوح بين 65 و80 مليار دولار، عادت البنوك إلى “نغمة” استعمال أصول الدولة من أجل إطفاء هذه الخسائر. والخوف أن تروق هذه “السمفونية” لـ”أذن” الحكومة، فتطرب بها.

إذا كان “أول الرقص حنجلة”، بحسب الموروث الشعبي الأردني، فان قول رئيس جمعية المصارف سليم صفير قبل فترة وجيزة في معرض رده على تقرير “غولدمان ساكس”، إن “لبنان هو بلدٌ يعاني من ضائقة مالية شديدة، إلا أنه يتمتّع بقطاعٍ عام ثري ويمكن للحكومة الوفاء بالتزاماتها المالية”، هو أول غيث حملة الضغط لوضع اليد على ممتلكات المواطنين العامة. بيد أن هذا الطرح الذي يشي باستمرار “حفلة” الإنكار في القطاع المصرفي والتهرب من تحمل المسؤولية، لا يهدد بافشال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، كما حصل في الفترة الماضية فحسب، إنما يحمل مخالفات صارخة لمبدأ العدالة الاجتماعية، المنطق والعلم.

 

الخسائر بالأرقام

 

تتوزع خسائر القطاع المصرفي بشكل أساسي على شقين: يتمثل الاول بحملها سندات “يوروبوندز” بقيمة “8.1 مليارات دولار”، بحسب أرقام جميعة المصارف، “من أصل محفظة بقيمة 35.2 ملياراً”. وهي ستخضع حكماً في المفاوضات لـ”هيركات” يقدر أقله بـ70 في المئة. ما يعني أن المصارف لن تنال من هذا الدين إلا ما يقارب 2.4 مليار دولار. أما الشق الثاني والأخطر فهو توظيفها ما بين 65 و80 مليار دولار من أموال المودعين في مصرف لبنان، الذي بدوره استعملها لاقراض الدولة بشكل أو بآخر. المشكلة، أن المركزي عاجز عن رد المبلغ للمصارف. فكل ما يملك من عملات أجنبية يختصر بـ13 مليار دولار تمثل التوظيفات الالزامية، ونحو 9221 مليون أونصة ذهب مربوطة بقانون صارم يمنع التصرف بها، وهي تعود لكل اللبنانيين، ويقدر سعرها اليوم بـ 16.2 مليار دولار. وعليه فان الموجودات من العملة الصعبة، مع احتساب الذهب تبلغ 30 مليار دولار، فيما المطلوبات تقدر بـ80 ملياراً وعليه فان الفرق لا يقل عن 50 مليار دولار. هذه الفجوة يمكن تغطيتها برأي المصارف من خلال بيع وتخصيص أصول الدولة، فهل هذا ممكن.

 

أصول الدولة لا تكفي

 

بالأرقام تشير دراسة “خصخصة الأصول اللبنانية العامة – لا يوجد حل سحري للأزمة” التي أعدها الزميل الباحث في السياسات في معهد عصام فارس البير كوستانيان، إلى أنه “لا يمكن اعتبار خصخصة أصول الدولة بمثابة “رصاصة سحرية” لمعالجة الخسائر الحالية للقطاع المالي في لبنان، لأن الإيرادات التي ستولدها هذه الأصول على المدى القصير غير كافية إلى حد كبير بالمقارنة مع خسائر لبنان الإجمالية. وباستثناء الأصول المخصصة للامتيازات، فان إجمالي عوائد الخصخصة أو بيع ممتلكات الدولة يتراوح بين 12 مليار دولار كحد أدنى، و22 ملياراً كحد أقصى، أي بمتوسط 17 مليار دولار”. فيما الخسائر هي بحدود 50 ملياراً.

 

وبحسب الدراسة فان أصول الدولة تتوزع على 4 قطاعات رئيسية هي:

 

– مشاريع مملوكة من الدولة، وتضم: شركة طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان وشركة الريجي.

 

– المواصلات والبنى التحتية، ويضمان: المطارات والمرافئ البحرية.

 

– العقارات، وتضم: الأراضي والمباني المشيّدة.

 

– المرافق العامة وتضم: شركة أوجيرو، شركتي الاتصالات الخلوية MIC1 وMIC2، مؤسسة كهرباء لبنان ومؤسسات المياه.

 

توليفة نماذج الخصخصة تقدر أن تكون العوائد على الشكل التالي: بين 600 إلى 740 مليون دولار بالنسبة إلى شركة طيران الشرق الأوسط. وبين 320 و420 مليون دولار بالنسبة لكازينو لبنان. وهذان القطاعان سبق وعمدت مختلف الدول إلى خصخصتهما نظراً للفوائد الايجابية على الاقتصاد وتعزيز التنافسية. أما في حال خصخصة شركة الريجي فهي ستعود برقم كبير يتراوح بين 1440 و1700 مليون دولار، إلا انه في المقابل ستخسر الدولة عوائد سنوية بلغت في موازنة العام الماضي 131 مليون دولار. خصخصة العقارات تعود بمبلغ يتراوح بين 7 و14.3 مليار دولار. بيد أن خصخصة هذه الأصول تعتبر أمراً معقداً لكونها مرتبطة بالقوانين واللوائح وبعملية سحب الاستثمارات، التي ستكون معقدة من حيث التصميم والعملية وهي تستثني مشاعات البلديات. خصخصة شركات الاتصالات تعود بمبلغ يتراوح بين 2.1 و4.2 مليارات دولار. فيما خصخصة الكهرباء توفر الدولة من عبء مادي يتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنوياً، إلا أنها بحاجة إلى إصلاحات كبيرة. أما في ما خص المطارات والمرافق فهي تعطى على شكل امتيازات تسمح بزيادة القدرة الانتاجية وتحسين القدرة التنافسية والجاذبية من دون استخدام أموال دافعي الضرائب.

 

الأرقام أكبر من الواقع بكثير

 

وفي حديث مع كوستانيان يلفت إلى أن “عملية الخصخصة تتطلب أولاً وجود دولة قانون ومؤسسات، وتوفّر الشفافية والهيئات الناظمة والقضاء المستقل… وإلا نكون أمام خصخصة الفساد”. وبرأيه فانه “عدا عن تجارب الخصخصة السابقة والشراكة بين القطاعين العام والخاص غير المشجعة بسبب غياب القوانين والرقابة، فان هناك خطأ مبدئياً بتسخير المقدّرات العامة لسد العجز الذي تسبب فيه سوء إدارة المركزي والمصارف التجارية”. هذا وتجري عملية تضخيم ونفخ للأرقام الممكن تحصيلها من بيع الأملاك العامة بعيدة كل البعد عن المنطق. وبحسب كوستانيان فان “برنامج الخصخصة الخماسي الذي اقدمت عليه اليونان لم ينتج عنه لغاية إعداد الدراسة قبل أشهر قليلة إلا أقل من 10 مليارات دولار. وذلك على الرغم من جودة الاصول اليونانية وعملية الدعم التي حصلت عليها من صندوق النقد الدولي والاتحاد الاوروبي”.

 

مخالفة العلم والمنطق

 

إذاً، ممتلكات الدولة لا تكفي من حيث الأرقام لتغطية الفجوة الهائلة في القطاع المصرفي، وهي تتطلب دراسات قطاعية منفصلة وإصلاحات مسبقة وحوكمة رشيدة. أما من حيث المبدأ فيلفت وزير الدولة لشؤون تكنولوجيا المعلومات السابق والخبير في الشأن المصرفي عادل أفيوني، إلى أن طرح استعمال أصول الدولة ساقط لـ3 أسباب رئيسية:

 

الأول، أن المصرف المركزي هو مؤسسة مستقلة عن الدولة. والمصارف لم تحصل على ضمانة بأصول الدولة أو ممتلكاتها عندما أقرضت المركزي. ولو كان هناك ضمانة بالأصول لما كنا شاهدنا فوائد وصلت إلى 30 في المئة، بدلالة واضحة على معرفة المصارف بمخاطر التوظيف التي يسببها هذا النوع من الاقراض.

 

الثاني، يعرّض أصول الدولة والمصرف المركزي على حد سواء لمخاطر حاملي السندات الأجنبية. فالاعتراف بامكانية استعمال أصول الدولة لتغطية الفجوة النقدية سيدفع الدائنين الدوليين من صناديق المؤسسات الحاملة لـ”اليوروبوندز” للمطالبة بالأمر نفسه. وهذا موضوع سيادي بالغ الخطورة لكونه يضع مؤسسات الدولة بتصرف الجهات الدولية. ومن غير المستبعد أن تطالب الصناديق الدولية بمصادرة الذهب أو الطائرات أو المؤسسات بحجة إستيفاء الدين.

 

الثالث، أصول الدولة هي ملك عام يعود إلى كل المواطنين. ومن غير المنطقي تسخيرها لمكون واحد في المجتمع المتمثل بالمصارف.

 

التصرف بأملاك الدولة رهن اللحظة المناسبة

 

أمام هذا الواقع تلفت مصادر متابعة إلى أن “التعويض عن المودعين هو مسؤولية المصارف وليس الدولة، وإن كان لا بد من دور تدخلي للأخيرة فيكون على قاعدة حماية صغار المودعين، ممن يضعون في المصارف شقى عمرهم وأمل مستقبلهم. وتدخّلها في هذه الحالة يحمي الاقتصاد والمجتمع من الخضات الاقتصادية والاجتماعية. لكن الأكيد ليس من واجبها حماية المستثمرين والمضاربين والمستفيدين من الريوع والفوائد. هذا من جهة المبدأ، أما من جهة المنطق فان المودعين من دافعي الضرائب يملكون الحصة نفسها من أصول الدولة، وفي حال التعويض الكامل على الجميع سينال كبار المودعين حصة أكبر بكثير من صغار المودعين. وفي جميع الحالات فان التصرف بالأملاك العامة بيعاً أو استثماراً يجب أن يخضع للّحظة الاقتصادية المناسبة. أي بعد الاصلاحات ومعاودة نمو الاقتصاد ترتفع عندها قيمة الأصول تلقائياً وتحقق الدولة أضعافاً مضاعفة في حال بيعها في ظل الأزمة.

 

الحل إذاً، يجب أن يبدأ باعادة هيكلة القطاع المصرفي على قواعد وأسس واضحة تضمن حقوق المودعين من جهة، ولا تعرض أصول الدولة من الجهة الثانية إلى البيع مجاناً، فقط من أجل إنقاذ الكيانات المصرفية ومختلف المودعين على حد سواء. وإذا كان للبد من الخصخصة لبعض الأصول فهي تتم بما يحقق مصلحة كامل الوطن والمواطنين ومن موقع القوة وليس الضعف.