Site icon IMLebanon

الى مالكي السندات: «الإفلاس» خلفكم و«المفاوضات» أمامكم

 

ما بعد التاسع من آذار 2020 هو غير ما قبله، وخصوصاً على المستويين النقدي والمالي، وعلى اللبنانيين الاستعداد لمرحلة جديدة ترتفع خلالها جبال من المصاعب قياساً على حجم المفاوضات المعقدة التي ستبدأ رسميّاً من اليوم. والى ما هو مطلوب من صبر وأناة، من الضروري عدم ارتكاب أي دعسة ناقصة تودي بنا الى حيث لا يرغب أحد. فكيف السبيل الى ذلك؟

بانتظار تجهيز المسرح التي سيشهد المفاوضات النقدية والقانونية بين المعنيين في قضية تجميد لبنان سداد ديونه لأصحاب «سندات اليوروبوندز»، انقلبت أولويات الحكومة، وتغيّرت جداول اعمال كثر ممّن يتعاطون بالملف، وتقلّص هامش المناورة لتخلو الساحة لأصحاب الاختصاص والمكلفين بإدارة المرحلة المقبلة.

 

ما هو ظاهر حتى اليوم انّ من سيمثّل الحكومة على طاولة المفاوضات هما المستشاران المالي «لازارد» والقانوني «كليري غوتليب». وفي خلفية الصورة وزارة المال صاحبة الاصدار الخاص بالسندات المتعثرة. فهي التي أصدرت باسم الجمهورية اللبنانية الدفعة الاولى منها بقيمة 1,2 مليار دولار أميركي مدّتها 10 سنوات مع قسيمة (فائدة) بنسبة 6,375 % تستحق في شهر آذار 2020. وكانت أولى الخطوات من ضمن برنامج سندات عالمية متوسطة الأجل بقيمة 22 مليار دولار أميركي جرى طرحها منذ ذلك التاريخ.

 

وبانتظار أن يقول أصحاب السندات الدوليين من مؤسستي «آشمور» و«فيداليتي»، وما يمكن أن يظهر من مالكين مغفّلين، كلمتهم في من سيمثّلهم في المفاوضات إذا أرادوها، فقد سَمّت جمعية المصارف مالكة جزء كبير منها شركة «هوليهان لوكي» لتكون مستشاراً ماليّاً لها. وكل ذلك يجري في وقت لم يحسم فيه الجدل القانوني بعد حول حق مصرف لبنان بالمشاركة في هذه المفاوضات، وهو يملك جزءاً من السندات الأخرى التي سيبدأ التفاوض بشأنها عند استحقاقها (5 مليارات و700 مليون دولار). فلا يمكن الفصل بين قرار التعاطي مع الدفعة التي استحقّت أمس وتلك المرتقبة عند استحقاقها في 19 نيسان و26 حزيران المقبلين، من ضمن مجموعة السندات التي سبق للجمهورية اللبنانية ان اصدرتهما.

 

وبعد قرار الحكومة السبت الماضي تجميد الدفع، وبمعزل عمّا كشفه من هشاشة الوضع النقدي بات من الواضح انّ جزءاً من العقبات المنتظرة تجلّى بفقدان المالكين اللبنانيين من مختلف الأطراف لِما يوازي 75 % من السندات بعد التسييل الذي قامت به بعض المصارف في الأشهر القليلة الماضية، لأسباب ما زال الجميع يشكّك بمدى ما ألحقته من أضرار بالدولة اللبنانية، وان كانت معبراً قالت المصارف إنها سلكته لتأمين مبالغ من الدولارات نقداً لتعزيز ما يحتاجه السوق منها.

 

ورغم الاستعداد للمفاوضات الشاقة التي من المفترض ان تنطلق من اليوم بين الحكومة اللبنانية وأصحاب السندات، لا تغفل مراجع مالية اهمية أن ينجح القطاع المصرفي باستعادة نسبة الـ 75 % من حجم السندات موضوع التعثّر لتسهيل المفاوضات الجارية وإعادة هيكلة الديون المترتبة عليها بين أهل البيت اذا أمكن ذلك. لكنّ ذلك ليس مضموناً، إذ انّ المصارف التي طُلب منها هذه الخطوة قبل فترة لم تقدم عليها، ولم ينجح المصرف المركزي بهذه المهمة ايضاً.

 

وفي حالتي النجاح او الفشل باستعادة النسبة الكبرى من السندات الى مالكيها اللبنانيين، فإنّ المسار القانوني لن يتغير. فالأمور لا تقف عند هذه المحطة من استحقاق هذه السندات فحسب، وإنما تمتد الى مسار السندات الأخرى التي تستحق في السنوات العشر المقبلة، ومنها ما يمتد الى العام 2035. وما تعذّر على لبنان القيام به اليوم ربما بقي قائماً الى تلك الفترة. فحجم الأزمة المالية والإقتصادية اكبر من ان تقف عند هذه الحدود الزمنية، وكل التوقعات تتحدث عن مسار طويل الأمد، ذلك انّ المشاريع المنوي القيام بها للانتقال من «الاقتصاد الريعي» الى «الإقتصاد المنتج» تحتاج ربما الى عقدين من الزمن.

 

إنّ العملية الهادفة الى تصحيح ميزان المدفوعات ومعالجة العجز في الميزان التجاري واستعادة التوازن المفقود في الموازنات العامة وتصفير العجز، لا يمكن ان تكتمل على الورق ولا تتحقق بكبسة زر.

 

على هذه الاسس يتطلّع المراقبون الى الخطوات المقبلة، ويرصدون ما يمكن ان تقوم به حكومة دياب لجهة توفير الظروف المؤاتية لدعم لبنان في المفاوضات المقبلة. والجميع يدرك انّ ما كان مطلوباً من خطط اقتصادية ونقدية شاملة لمعالجة المأزق الإقتصادي برمّته لم يتحقق. وكل الوعود التي قطعت من أجل تنفيذ الضروري منها لم تنفّذ وبقيت حبراً على ورق في مسلسل مؤتمرات باريس الثلاثة، وما قال به «سيدر واحد» ايضاً.

 

وعليه، لا بد من الإعتراف انه ومهما كان موقف لبنان ضعيفاً، فأصحاب رؤوس الأموال مالكو السندات ليسوا في وضع أفضل، وما يمكن البوح به انهم مُجبرون على خوض المفاوضات مع لبنان أيّاً كانت الأثمان المتوقع دفعها. والتعاطي مع دولة أيّاً كان وضعها النقدي والمالي ليس أمراً بسيطاً. فلبنان الذي لم يتخلّف يوماً عن سداد ديونه لن يكون في موقع الضعيف الى ما لا نهاية. وباعتراف مَن خاض مفاوضات مماثلة بين دولة ومؤسسات تمتلك الديون السيادية انه لا بد من ولوج باب المفاوضات لتحصيل حقوقها وتأمين الحد الأدنى من أرباحها.

 

ومردّ ذلك الى صعوبة الحصول على قرارات قضائية دولية او اقليمية لجباية ما لها في ذمّة الدولة اللبنانية من ممتلكاتها الخارجية. فوضع اليد على الذهب اللبناني دونه عقبات قانونية وسيادية ولن يطاله أحد، ما لم يقبل اللبنانيون بالتصرّف به، وتجاوز العقبات التي تحول دونه. والسعي الى وضع اليد على أملاك الدولة اللبنانية في الخارج ليس مشواراً سهلاً. فالسفارات ومنشآت «الميدل إيست» وطائراتها لها ما يكفي من الضمانات القانونية لتحميها، وهي ليست ملكاً لدولة.

 

وبعيداً من التفاصيل المعقّدة، يجب الاعتراف بأنّ على اللبنانيين إثبات قدرتهم على الانتقال في ايام من الاحتفال بالانضمام الى نادي الدول «المنتجة للنفط» الى نادي الدول «المتعثرة»، وانّ على مالكي الأسهم الاعتراف بصعوبة الانتقال الى الدولة «المارقة» لأنهم سيكونون من أولى ضحاياها، وما عليهم سوى الإعتراف بأنّ إفلاس الدولة بات من خلفهم والمفاوضات من أمامهم؟ وما عليهم سوى خوضها بكامل الأسلحة المتوفّرة، وللطرفان ما يكفي منها.