أما وقد تسابق أكثر من مسؤول في دولتنا الحرة الأبية على إعلان إفلاسها على مرأى ومسمع العالم، فقد أصبحنا أمام واجب هذه الوقفة:
إفلاس!… وبهذه الطريقة المهينة لكل لبناني فخور بمكانته الإجتماعية والعلمية والثقافية وبهذا الشكل المعيب الذي ما زال المسؤولون لدينا حيارى في تدابيرهم الساعية إلى تلطيف وقعه الهائل الذي تجسدت تلاميحه القاسية، فظهرت للعيان أول ما ظهرت في ذلك القرار الذي اتخذه القاضي علي إبراهيم ضد عشرين مصرفا أوقع عليها سيادته، قرارات حجر وحجز ومنع تصرف، بل «أمّمها» بسلطة ليست له ولا يمكن أن تكون وكأن هذه المصارف، مدين عادي، بسيط الجذور، قليل الفاعلية والأثر. لقد أثبتت نتائج التدابير «الإحترازية» التي تم اتخاذها على عجل شديد تكهن الناس سلفا بهوية الدافعين إلى اتخاذ القرار والمختبئين خلف تداعياته الخطرة، والضجيج الهائل الذي رافقه، ولم يكن أدل على خطورة ذلك الانقلاب المتخفي بالزي القضائي الطارئ إلاّ لجمه وإيقافه قضائيا ومن خلال قرار اتخذه المدعي العام التمييزي الرئيس عويدات، في النهار نفسه وعشية ذلك اليوم الذي قامت فيه القيامة على ذلك القرار المعلل بصورة منقوصة وغير المستند إلى مبادئ قانونية محددة ووافية، مما سهّل مهمّة إيقافه عند الحدود التي أوصل البلاد إليها ولطّف من الآثار القانونية والمعنوية التي لحقت بلبنان المفاخر بمكانته الثقافية والعلمية والقانونية من خلال هذا التصرف القادم إلينا عن سابق تصور وتصميم، فاذا بنا أمام «لبنان» المتهالك على أوجاعه وآلامه في كل صعيد، في مسعى حثيث لتحقيق انقلابٍ ما، ينسف الأسس التي تكوّن عليها النظام اللبناني. دون أن يعني ما نقول أن أفعال المصارف وافتعالاتها غير قابلة للنقد ومنزهة عن أي خطأ، ولكنها ما تزال ركيزة لهذا الاقتصاد الذي عايشته البلاد ورافقته في انجازاتها الاقتصادية والإنمائية، قبل أن تهب عليه العواصف الهوجاء القادمة إلينا من وراء الحدود.
لقد استمعنا قبل أيام إلى كلمة الرئيس دياب التي أعلن فيها تعليق دفع الديون وبالتالي، تخلّف لبنان عن دفع الديون التي استحقت على دولتنا المتلاشية، والتي باتت لها «تفليسة» قيد الدراسة والعناية والتداول وجملة من المحاولات الساعية إلى لملمة تشظّي جملة القنابل التي أُطلقت في سماء لبنان، داكنة السواد، والتي أطلت إلى الوجود بصورة جلية غير قابلة للاحتجاب والتخفّي خلال تحديات الأسبوع الفائت.
لئن كان الحراك الشعبي الذي غاب دوره جزئيا عن البروز والتطور خلال المرحلة التي تلت تأليف وتشكيل الحكومة الجديدة والتي اعتبرها البعض نقطة تحول في تاريخنا الحديث بحيث أصبحنا أمام أزمة كارثية، واعتبرت هذه الحكومة أملا مضيئا ولد بصورة خافتة، فتحه المسؤولون الغاطسون في البحث لأنفسهم أولا، وللبنان ثانيا عن وسائل للإنقاذ والخلاص من مصائب هذه الأيام الحالكة التي سبق لهم أن أغرقوا البلاد في خضم هروبهم من المعالجة الجذرية والسريعة، لمرض عضال لم يكن يحتمل كل هذا التأخر وهذا التجاهل وهذا الاسترخاء المستغرب.
كلمة الرئيس دياب الحافلة «بالنويا الطيبة»، والأمل في اجتياز المحنة ومسبباتها ومنع تحقق نتائجها الكارثية، تبقى غوصا في الإعلان عن جملة من الاستعدادات لتخليص لبنان من أزمته الخانقة، وهي مجرد إعلان عنها، ما زال على كثير من الغموض ومن الابتعاد عن المطالب التي لاحقت لبنان، منذ مؤتمر سيدر، وبعيدة عن المطالبة الدولية والإقليمية التي تلاحقه بها حتى الآن. وما زال الباب الوحيد المفتوح أمام الإمكانيات اللبنانية متمثلا بجهود تقوم بها الدولة اللبنانية مع البنك الدولي الذي ترافقه غيوم المعارضة المتمرّسة لحزب الله ولمطالبه وللشروط التي يمكن أن يفرضها للإستجابة إلى مطالب الدويلة اللبنانية لتحقيق عملية الإنقاذ المطلوبة بإلحاح من الجانب اللبناني عموما، بما فيه المطالب الملحة للحراك الشعبي. الذي بات يستعد لمتابعة تحركاته.
حتى إذا ما تجاوزنا إمكانية المعالجة الدولية للوضع اللبناني سواء عن طريق البنك الدولي أو عن طريق بعض المراجع والبلدان الأوروبية وفي طليعتها فرنسا، لوجدنا أنفسنا أمام مرجع أساسي متبق للخروج من هذه الأوضاع العصيبة ألا وهو البلدان العربية عموما وبلدان الخليج العربي على وجه الخصوص، وهي التي ما زالت تثبت أنها بعد أن كانت أخا وفيا ومعطاء في الملمات الصعبة للبنان المكابد والمعاني وذلك منذ بضعة عقود طاولته فيها حروب أهلية وإقليمية وخراب ودمار تمت إزالة آثاره ومصائبه بكل محبة واندفاع، ها هي في هذه الايام قد ارتدت عن مواقفها السابقة وطبيعتها الصادقة والمعطاءة للبنان الذي عرفته وتعاملت مع قضاياه ومشاكله قبل تبدل الأوضاع وانقلابها إلى وضعيات عدائية حافلة بشتى أنواع المخاصمة الشرسة في كل مجالات التعامل خاصة وأن القوى الممسكة بيد السلطة هي حزب الله بوجوده وإمكانياته وتشكيلاته المحلية والإقليمية والمنفتح على إيران وامتداداتها وعطاءاتها في كل موقف وكل مجال، وهو ما فتئ يعلن ذلك بصريح العبارات وواضح المواقف، والبلاد العربية قد تلقت كل هذه المستجدات بمحاولات لدفع الأذى عنها بكل حكمة وروية ولا يدفع الثمن الباهظ إلاّ لبنان الدولة والشعب، بحيث بتنا أمام أوراق ومستندات إفلاسية تقدمها السلطة اللبنانية إلى المجتمع الدولي طالبة الصلح الوقائي وإلاّ فالإفلاس الواضح والصريح.
كنتيجة حتمية لكل هذه التطورات، الشعب اللبناني كله بات مدعوا إلى الاستعداد لاتخاذ مزيد من المواقف الانتفاضية التي تعيد إلينا لبنان الذي نعرفه ونعتز بانتمائنا إليه.