مِن جدران المصرف إلى قاعات بعبدا
مَنْ ينقذ الـ «تيتانيك» (Le Titanic) اللبنانية من الغرق، بعدما اصطدمت، قبل 17ت1 (اكتوبر) الماضي بطبقة جليدية من الإنهيار، في وضع لبنان الإقليمي، والمالي، والنقدي، أوقعتها في مأزق، من الصعب التماس الطريق لتشخيصه، أو المقاربة العملية لمعالجته.
فجأة، بالتزامن مع انفجار الشارع، وجدت المصارف نفسها امام أداء غير مسبوق، يُشكّل انهياراً لأسس سادس نظام مصرفي في العالم، من حيث حجم الأصول نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، إذ تضخمت الودائع لتبلغ نحو 280٪ من إنتاج الاقتصادي السنوي.
توقفت التحويلات المالية من الخارج، وأظهرت الحكومة عجزاً عن تمويل العجز في الميزانية، واتجهت الأنظار الى المصارف، التي حاولت جذب رؤوس الأموال عبر فوائد مرتفعة لامست 15٪ أو أكثر على دولار، وقرابة 20٪ إلى 30٪ على الليرة، فإذا بها تفرغ من العملات الصعبة، وتقونن على طريقة غير مسبوقة في الأنظمة المصرفية دفع سحوبات المودعين من العملات الصعبة، وحتى العملة الوطنية، وسط معلومات بالغة الخطورة عن تهريب رؤوس الأموال بمليارات الدولار إلى مصارف «شقيقة» في الخارج، ووضع سياسيين لبنانيين كبار أموالهم أو تهريبها إلى سويسرا وغيرها من العواصم المالية العالمية.
بدا، فجأة ثانية، النظام المصرفي اللبناني، الذي صنع ما يعرف «بالمعجزة اللبنانية» أو شكل إيقونة «المعجزة اللبنانية» في واحدة من أبشع صوره، وأشنع ممارساته، وضع اليد على ما ليس له أي أموال المودعين، سواء الذين صدقوا أكذوبة الفوائد المرتفعة، و«السرية المصرفي» و«النظام الأخلاقي» لأصحاب المصارف، وأتوا بجنى العمر، ليضيع في «كبسة زر» في محافظ المصارف وصناديقها واجراءاتها، غير المسبوقة في أي نظام مصرفي، في العوالم المتقدمة وحتى النامية، مع خرق فاضح للقوانين والأنظمة، وحتى الدستور، الذي يحمي الملكية: «الملكية في حمى القانون فلا يجوز ان ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً» (م15/د).
مع الأزمة التي تدخل، فصلاً جديداً مع إجراءات متوقعة اليوم، يطرح السؤال من أين يأتي الحل: هل من حركة «فتى المصارف» كما أطلق على محمّد بزيع (الناشط الذي شاهدته لأولم مرّة، وهو يخرج من مخفر ثكنة الحلو) أم من جرأة «المناضل الاجتماعي» محمّد زبيب الذي هجر الإعلام إلى الساحات، وهو يكشف الخطط المعادية لجمهور المودعين، ولعامة الشعب اللبناني، الذي أخذ على حين غرة، في ظل موت نقاباته، وعفن احزابه، وتورط طوائفه في مصالح أشبه إلى «المافيوية»، منها إلى أي شيء آخر، في حين أن مؤسساته، تعيش لحظات انتظار لاتخاذ المبادرة، من المجلس إلى الحكومة، فالسلطات القضائية، فضلاً عن العناصر المولجة بحفظ الأمن، التي تعيش في أسوأ حالات، الوضع الاجرائي، بين تعاطف مع الجمهور المعتدى عليه، في حقوقه، ولقمة عيشه، ومصير اولاده, وبين الأوامر العليا بالحفاظ على ما يسمى الأمن والاستقرار».
أم يأتي الحل من تعاميم حاكم المصرف المركزي؟ أم من تعاميم لجنة الرقابة على المصارف؟ أم من الاجتماعات المالية في قصر بعبدا، أو غيره من قصور الطبقة الحاكمة، الهابطة على غير مستوى، والتي عهدت لحفنة من الاكاديميين، غير المتمرسين، انتشال البلد من الأزمات، أو «مواجهة التحديات» بعدما بدا لرئيسها حسان دياب العجز عن الإنقاذ؟
وللمسألة أوجه عدّة، من أين يكون المدخل، من تعويم أوضاع المصارف، أو إنقاذ النظام البنكي والمصرفي اللبناني، أم من الذهاب إلى المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي وغيرها.. أم من الامتناع عن سداد الديون السيادية أو «اليوروبوندز» التي تستحق على البلد «المثخن بالديون»؟!
واسئلة تتالى، من دون التماس القدرة على أي سبيل يسلك، غير التريث والإنتظار.. في الخلفية، ينفجر صراع غير مسبوق، على أرض الحياة السياسية بين طرفي التسوية الرئاسية: التيار الوطني الحر، الذي آلت إليه إدارة البلاد قبل 17ت1 الماضي، وتيار «المستقبل» الذي آثر رئيسه رئيس الحكومة السابقة سعد الحريري الخروج من المواجهة، والانتقال إلى المعارضة، وهو وان لم يتخذ مواجهة ذات طبيعة مذهبية أو دينية، فإنه ينطوي على انقسام في المشهد ظن اللبنانيون بعد الطائف، انه أصبح من الماضي.
ومع هذه الخلفية، من المتوقع ان تظلل الأزمة الاقتصادية المميتة، أزمة من نوع، دعوة الرئيس ميشال عون إلى الاستقالة، وفقاً لرؤية النائب السابق وليد جنبلاط، حيث تستهوي رؤيته أوساط في المعارضة السابقة والحالية من السير بهذا التوجه..
وفي الخلفية الإقليمية، ما يشبه التخلي عن لبنان، الوطن الثاني، حسب الروايات، للأشقاء والأصدقاء، أو على الأقل، مرحلة من التفرج والانتظار.. (بلا زيادة أو نقصان).
وهناك، على الضفة الدولية الكبرى، الولايات المتحدة، التي بدأت حرب تصفية الحسابات، على أرض الـ «10452 كلم2» لمحاصرة إيران، وسوريا، وملحقات المحور، من العراق إلى اليمن، إلى تخوم أفغانستان، وبعض القرن الافريقي، بتصفية «بنك جمّال» وهو أقوى مصرف لبناني محسوب على الفريق الشيعي (أو ما يعرف بالثنائي الشيعي)، واستكملت عدّة الشغل لمحاصرة بيئة حزب الله، لاضعافها، إذا بها تنسف كل الجسور مع عموم الشعب اللبناني، الذي خرج إلى الساحات، يصرخ بوجه الغطرسة، والأليغارشية، ونظام المصرف، والطبقة السياسية، ومكوناتها الطائفية والحزبية والسياسية..
تكتفي الحركة المطلبية برفع الصوت في الشارع، كهيئة رقابة داعمة، ولكن من دون جدوى فعلية، ما لم تتخذ الحركة الاحتجاجية مسارات مختلفة، ووضعيات احتجاجية، أكثر راديكالية.. مع تشكّل حالات ضغط، تجمع الجمهور، والمودعين، والقوى الحامية، أو حتى السلطات القضائية في اتجاه واحد، له تغطية في نطاقين إقليمي ودولي.. فلا شيء يرتجى في المديين القريب والمتوسط..
ثمة من يعتقد، ان المدخل للمعالجة يكون من خلال إعادة القوة إلى النظام المصرفي، لمواجهة التحديات الاقتصادية، وذلك من خلال زيادة رأس المال، أو تخفيض الفوائد أو حتى دمج المصارف.. بما في ذلك لجوء المصارف «بيع استثماراتها في الخارج للمساعدة في تدعيم اوضاعها المالية» (مفاوضات بنك عودة مع بنك أبوظبي لبيع فرعه المصري)..
والأخطر في المسألة: الموقف من سداد سندات دولية بقيمة 1،2 مليار في 9 آذار المقبل، هل يدفع أو تجدول، أم يتخلف لبنان عن التسديد؟
والاتجاه البارز على هذا الصعيد، سداد حائزي السندات من الأجانب، وإعادة جدولة ديون المصارف اللبنانية.
وفي مطلق الأحوال، وان بدا المكلف اللبناني، فضلاً عن المودع اللبناني، نال كلاهما حصة من الخسائر، فإن الاتجاه ماضٍ إلى تحميله المزيد، مع انحدار مخيف في حوزة المصارف للدولارات، التي اقتربت من الصفر لدى بنوك المراسلة في الخارج، وهو ما تحتاج إليه لتغطية سحوبات العملاء بالدولار في لبنان وللسماح بالسداد العاجل للتحويلات للخارج، مما تعبّر عنه مستويات تخفيض وكالات التنصنيف الائتماني لمجموعة من البنوك، في مقدمها البنوك الثلاثة الأولى في لبنان.
ومع هذه النتيجة،حيث ان الوظيفة الأساسية للنقود هي تلبية الحاجات المدفوعة، تفقد الليرة اللبنانية مكانتها، لدرجة، انه، وقبل صدور قانون الموازنة الجديد، ونشره في الجريدة الرسمية، سارعت شركة «الميدل ايست» إلى حظر التعامل سواء لجهة الحجوزات أو شراء التذاكر بغير العملة الخضراء (الدولار).
تهاوت مع انهيار النظام النقدي اللبناني، وانهيار النظام المصرفي، ولو جزئياً، جملة من النظريات، والاوهام الاقتصادية، جعلت الشك بمحله، في قدرة نظريين أكاديميين من مقاربة المسألة.
تتداخل في «النموذج» اللبناني وعوامل، تجعل من الصعب رؤية العلاقة التبادلية بين السياسات المالية والنقدية والوضع الدولي للبلد، وبالتالي المخارج الممكنة.. وليكن الرهان على النموذج ليجدد نفسه، بعناد أو بغير عناد!