بعد جولة الأخذ والرد حول خطة الحكومة المقترحة للنهوض بالاقتصاد، بعد نكبة الاعلان عن وقف سداد الدين العام واللجوء الى صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة مثلثة الأبعاد للمالية العامة والمصرف المركزي والقطاع المصرفي، دون إدراجه في صياغة الحل، لم تتخذ المصارف خيار التصويب العبثي على خطة الدولة، على الرغم من اقتراح شطب رساميل البنوك عشوائياً، كجزء مما اعتبرته الحكومة “توزيع خسائر”، بل أقدمت على تفنيد وضع القطاع وكيفية نهوضه. وبعد أيام قليلة من تقديم الدولة اللبنانية النسخة الرسمية من خطّتها، نشرت جمعية مصارف لبنان دراسة مفصّلة تشرّح فيها المصارف نفسها أوضاع القطاع في إطار الحال الاقتصادية الشاملة والأعباء التي حمّلها إيّاها وضع المالية العامة والقطاع العام من جهة، ومسؤولية تمويل الاقتصاد والمحافظة على استقرار مؤشراته من جهة أخرى. فما هو واقع التشابك بين أزمة المالية العامة والقطاع المصرفي؟ وأي رؤيا للمصارف للخروج من المأزق واستعادة دورها؟
على الرغم من كون المصارف في خط المواجهة المباشر مع المودعين، إلّا أنّ المعروف أنّ صلب الأزمة ليس في القطاع المصرفي نفسه، بنتيجة أزمة رهن عقاري وسوء إدارة مخاطر على غرار أزمة 2008 التي استنفرت فيها الدول لتعويم العديد من المصارف، بل العكس تماماً، حيث استند القطاع العام المثقل بديونه على مموّله الأول وهو القطاع المصرفي. علماً أنّ للمصارف مسؤوليات أخرى تتصل بدورها الرئيسي في تمويل الاقتصاد والاستثمار الخاص، ولا سيما في بلد مثل لبنان، يُعتبر من “إقتصاديات الاستدانة”، حيث البورصة ضعيفة والمستثمر يعتمد أساساً على التسليفات المصرفية لتطوير أعماله، للمساهمة في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل…
وقد أظهرت مجمل الدراسات، أنّه أبعد من انكشاف المصارف على سندات “اليوروبوند” التي تحملها بحوالى 14 مليار دولار أميركي و”اليوروبوند” التي يحملها المصرف المركزي بقيمة 5.7 مليارات دولار أميركي، فثمة مصادر قلق أخرى من الانكشاف السيادي للقطاع. فبالإضافة إلى سندات “اليوروبوند” التي يحملها القطاع المصرفي، تبيّن أنّ المصارف اللبنانية وظّفت حوالى ثلثي ودائعها بالدولار لدى المصرف المركزي، عبر شهادات إيداع بالدولار الأميركي، حتى بات عليه إلتزامات بقيمة 52.5 مليار دولار على شكل ودائع بالعملات الأجنبية وشهادات إيداع بالدولار الأميركي، يعود معظمها الى المصارف اللبنانية، أي أنّها توظيفات من مجموع مدخرات المودعين اللبنانيين بالعملات الأجنبية. كذلك من المفيد الاشارة، الى أنّ معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف هو 15% ، ما يعني أنّه مقابل مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، وهو حوالى 120 مليار دولار، ثمة 18 مليار دولار (15% من 120 مليار دولار) على شكل إحتياطي إلزامي بالعملات الأجنبية، تضاف الى الأعباء بالعملات الأجنبية التي يُفترض أن تكون لدى المصرف المركزي إمكانية تغطيتها.
وقد تبلورت تداعيات الأزمة على النتائج السنوية للمصارف العاملة في لبنان تراجعاً في أرباحها من 2.234 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2018 الى 522 مليون دولار أميركي في نهاية عام 2019 ، ذلك بشكل عام، دون الدخول بالفوارق من جهة، بين المصارف ذات الحصة الأساسية الصامدة في الحد الأدنى من الأرباح، وتلك التي باتت تعاني الخسائر، ومن جهة أخرى بين المصارف المحصورة في السوق اللبناني، وتتلقّى تداعيات أزمته، والمصارف الأخرى التي تتنفّس من نشاطها خارج الحدود اللبنانية، والتي لم تدرج بعد نتائجها الربحية في حساب مجموع الأرباح الداخلية للمصارف العاملة في لبنان.
إلّا أنّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي لا يمكن أن تحصل بشكل إنفرادي وبشطب اجمالي لرساميلها، بغض النظر عن وضعية وخصوصية كل منها.. بل بدراسة وقع إعادة هيكلة الدين على رساميل كل مصرف معني، وبالتالي حاجته للدمج او التصفية للبيع، لتشكيل مجموعات مصرفية صلبة متماسكة تعيد الثقة للقطاع.
وتميّزت رؤيا القطاع المصرفي، بتظهير حاجة إعادة هيكلة القطاع المالي وفق معايير تختلف عما تقدّمت به خطة الحكومة. وتحدّد أنّ هناك حاجة لتطبيق تدريجي واضح، وفي الوقت المناسب، للتدابير، من أجل الحفاظ على الثقة في القطاع المصرفي في لبنان. هذه الرؤيا تعيد تسليط الضوء على جوهر المشكلة والمسبب الأساسي بالخسائر وهو القطاع العام، مما يجعل الأولوية الأولى في اعتماد تسوية ديون الحكومة للمصرف المركزي ومقاربة مختلفة عن أسلوب جمع الخسائر المسجّلة في كل قطاع على حدة، بما يحول دون ازدواجية الاحتساب…
وإذ تختلف نظرة الجهاز المصرفي لما سمّته خطة الحكومة “خسائر المركزي”، فيما اعتبرها الجهاز المصرفي قابلة للتدوير مقابل إيرادات أجنبية ممكن تحقيقها مستقبلاً بالعملات الأجنبية، يبقى الأساس، أنّه لا يمكن أن يتحمّل القطاع المصرفي كلفة تثبيت سعرالليرة، وهي نتيجة خيار وطني بربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، وقد كان لها إيجابيات عديدة في تعزيز القدرة الشرائية للبنانيين على مدى سنوات، قبل ان تنهار المؤشرات الاقتصادية ويتدهور وضع ميزان المدفوعات…
وتشير خطة المصارف، إلى المساهمة المحدّدة للقطاع في تمويل الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي. إذ يمثل القطاع المصرفي 6 % من الناتج المحلي الإجمالي. إذاً، إنّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي تندرج في إطار: السلامة العامة للقطاع المصرفي، لما له تأثير قوي على أي تصنيف سيادي وخصوصاً في لبنان، بالنظر إلى حجمه ووقعه في الاقتصاد الوطني. وبالتالي تضع الخطة القطاع المصرفي، الذي لطالما شكّل مصدر ثقة، في صلب خطة النهضة الاقتصادية للبنان، بدلاً من تصفيته بشطب رساميله وإعادة رسم خارطته من جديد، إن بتوزيع رخص جديدة أو بتوزيع ملكيته بين كبار المودعين أو سواهم من مهتمّين، بشراء ودمج وخلط أوراق المصارف رأساً على عقب دون تمييز…
من ناحية القطاع الخاص، المعلوم أنّ الاستثمار ليس مجرّد نتيجة لمعدّل فوائد وحوافز تقنية، بل هو بالأساس نشاط اقتصادي ناتج أولًا من مناخ إستثماري مطمئن للمموّلين، وجو ثقة بالاقتصاد الوطني وبالاستقرار الشامل قبل الحوافز المصرفية، ومعدلات الفوائد والرسوم الضريبية والتسهيلات الادارية وغيرها… من هنا لفتت خطة المصارف الى أنّ عملية إعادة الهيكلة المحلّية ، كما وردت في الخطة الحكومية، تحتاج الى استراتيجية فعّالة لمكافحة الفساد، تنفيذ سلّة الاصلاحات المرتقبة محلياً ودولياً، كما تحتاج لإعادة نظر في احتساب الخسائر والأرقام والضمانات (مثل مسألة القروض المتعثّرة، والتي تكون مغطاة برهن وبإعادة جدولة، تسمح للمستدين أن يحسّن أوضاعه ويتابع سداد قرضه متى اتُخذت اجراءات لتحريك الاقتصاد، وبأقصى الأحوال تغطية الرهن لقسم من الدين).
فإذ تشير الخطة الحكومية إلى أنّ قيمة القروض المشكوك بتحصيلها قد تناهز 40 ألف مليار ليرة لبنانية، تؤكّد خطة المصارف أنّ هذه القروض مغطّاة عملياً بضمانات نقدية وعينية وعقارية. وبالتالي، حتى وإن وصلت نسبة الديون الهالكة إلى 30 % من إجمالي القروض، فهي لن تتعدّى 10 % بعد تنزيل المؤونات والضمانات..
أما من ناحية القطاع العام وعجز الدولة عن السداد، فترى خطة المصارف أنّ الأولوية تكمن في تحمّل الدولة للمسؤولية، من خلال موجوداتها، وسبل إشراك القطاع الخاص، إن في ملكيتها او مردوديتها حتى إستعادة حقوقه.
من هنا يمكن فهم جملة الخطوات الإصلاحية الجدّية التي تقدّمت بها خطة المصارف، وهي الآتي: إنشاء صندوق حكومي لتخفيف الديون، مساهمة الحكومة من خلال الأصول أو الممتلكات العامة بقيمة 40 مليار دولار أميركي في الصندوق المذكور مقابل الحصول على 100% من أسهم الصندوق، أي كامل الملكيّة؛ إصدار الصندوق لأوراق مالية مضمونة طويلة الأجل بقيمة 40 مليار دولار، يحملها مصرف لبنان مقابل التسوية النهائية لدين الحكومة لصالح المصرف المركزي، تنازل مصرف لبنان للصندوق عن كامل محفظة “اليوروبوند” وسندات الخزينة اللبنانية ؛ في المقابل، شطب الصندوق للحكومة كامل محفظة الديون المشار اليها أعلاه، مقابل الأصول التي ساهمت فيها الحكومة في الصندوق؛ على أن يتمّ تحويل رصيد إيرادات الصندوق الى الخزينة العامة بعد أن يسدّد الصندوق الفوائد المتوجّبة لمصرف لبنان…
القطاع المصرفي هو محور الاقتصاد اللبناني، وخطته تسمح بتفنيد الأرقام والمسؤوليات وسبل الحلول، وتُظهر بوضوح أنّه الأدرى بوضعيته ومكامن قوته وعناصر ارتكاز نهضته… وللمرة الأولى يُطرح ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي ككل بهذا الحزم والقناعة لدى جميع الأطراف المعنية، باتجاه البناء الصلب لقطاع متين، بمؤسسات شفافة وفعاّلة بعيدة من كثافة الأسماء والمنافسة غير الجديرة وأوهام الفوائد المضخمّة والأرقام غير الواقعية، وتوجيه الإدخار نحو تمويل قطاع عام عاجز على حساب قطاع خاص ديناميكي… من هنا كان ينبغي إعطاء الأولوية لإشراك الجهاز المصرفي برسم خطة نهوضه. واليوم بات الأخذ في الاعتبار إقتراحات المصارف ضرورة ملحّة للتمكّن من تحقيق النتائج المرجوّة.