Site icon IMLebanon

مخاطر تسييس ملف المصارف

 

فلنقلها في البداية ومن دون مواربة: لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي، ولا إنتاج، ولا مستقبل، ولا أمان، ولا حتى مجتمع متماسكاً من دون هذا القطاع. التمويل عصب الإقتصاد. القروض والخدمات المصرفية حاجة ضرورية للصناعي، للمزارع، للعائلة، للطالب على حد سواء…ناهيك عن قطاعات كثيرة أخرى مثل التأمين والصحة والإسكان، كلّها مرتبطة بشكل عضوي بالقطاع المصرفي. من هذا المنطلق أزمة القطاع المصرفي في لبنان بالغة الدقة والأهمية، لا يجوز التعامل معها لا بخفة ولا بكيدية.

هناك من يشنّ حملة ممنهجة على المصارف لأهداف سياسية مكشوفة، محاولاً تحميلها منفردة مسؤولية الأزمة المالية، متغاضياً عن المسؤولية الكبرى لا بل الأولى، للمنظومة السياسية التي أهدرت المال العام، راكمت الديون، زرعت الفساد، والأخطر من ذلك أعاقت وما زالت تعيق أي شكل من أشكال الحلول. ومن بين هؤلاء من جعل من الحملة على المصارف في الفترة الأخيرة جزءأً من حملته الإنتخابية. فكان ملفتاً في هذا السياق، أقلّه من حيث التوقيت، القرارات القضائية الأخيرة الصادرة بحق كبار المصرفيين.

ولنردّدها بوضوح، مسؤولية الجميع بمن فيهم المصارف هي أمام القضاء. ومسؤولية المصارف هي بالدرجة الأولى أمام زبائنها أي المودعين الذين إئتمنوها على أموالهم ومدّخراتهم، كما هي أمام جمعياتها العمومية. أما تسييس ملف إصلاح القطاع المصرفي وربطه بالمعركة الإنتخابية فهو محفوف بالمخاطر. الخطر الأول يكمن في تحريف المسار الإصلاحي المطلوب عن أهدافه، مسار لا أحد ينكر وجوب مروره الحتميّ بمحاسبة المسؤولين عن كل الأخطاء التي اقترفوها والسياسات التي انتهجوها. ولكنه مسارٌ لا يمكن فصله عن البرنامج الإنقاذي الشامل المزمع عقده مع صندوق النقد، خاصة أن بعض من في الحكومة ما زال مصراً على أن المحادثات مع هذا الأخير لم تتوقف وما زالت مستمرة على قدم وساق.

وإذا كانت المحاسبة الخطوة الأولى في مسار الإصلاح، فلا بدّ أن يقودها قضاء مستقل وبعيد كل البعد عن اللعبة السياسية. وفي وضعنا بالذات لا مفرّ أن تكون تحت رعاية دولية، تحديداً صندوق النقد، نظراً لتعقيداتها التقنية ولأزمة الثقة التي تهيمن على كل ما له علاقة بالسلطة بشقيها السياسي والنقدي. ومن الضرورة أن ترتكز على قاعدة قانونية (كابيتال كونترول وغيره من التشريعات) غير متوفرة بعد. فالهدف المرجوّ من أي عملية إصلاحية ليس التشفي ولا تصفية الحسابات إنما إرساء القواعد لاسترجاع الحقوق والتعافي الإقتصادي. لذلك لا بد من مقاربة شاملة، تنطلق من توزيع خسائر مجمل القطاع بعد تحديدها وتحقيقها. وعلى ضوء ذلك يبنى على الشيء مقتضاه، فيُقفل ما يجب أن يُقفل ويُدمج ما يجب دمجه، وتُنقَّى الأصول وتُحدّد آليات تعويض الخسائر وتسديد المستحقات.

آن الأوان للمصارف أن تدرك أن إنكار الخسائر والمسؤوليات، وسياسة الهروب إلى الأمام، لن تؤدي سوى إلى تفاقم الخسائر، وإبعاد آفاق الحل وفتح الباب أمام التسييس والإستنسابية. أما أهل السلطة الذين عاثوا فساداً وهدراً، واستفاقوا اليوم على حقوق المودعين، فحبذا لو يدركون أن الطريق الوحيد لاسترجاع ما يمكن استرجاعه من حقوق هو التوجّه فوراً إلى صندوق النقد ورفع كل المعوقات أمامه أي تنفيذ الإصلاحات…إصلاحات هم عاجزون عنها لأنها تقود إلى إسقاطهم…وعبثاً يحاولون الإستعاضة عنها بمعارك جانبية شعبوية على حساب المواطن والإقتصاد.