إجراءات مصرفية “تضرب” الإقتصاد… والمودِعين أجمعين
“بدلاً من أن تُكحّلها… أعمتها”، مثلٌ يصحّ على التدابير المصرفية اليومية، التي تسابق بتقلباتها سعر صرف الدولار في الأسواق. الإستنسابية في القرارات، واختلافها من فرع إلى آخر ضمن المصرف الواحد، لم يقلقا المواطنين ويرفعا من مستوى سخطهم فحسب، بل أعدما الثقة بالنظام المصرفي بعدما كان المنزّه عن الأخطاء و”حامي الحمى” بحسب تعبير أحد المواطنين.
تعليقات غالبية المسؤولين الفوقية في القطاع المصرفي، والتي تبرّر الإجراءات المتخذة وتضعها في خانة ان “المصارف تقدم خدمة للمواطنين(…) وهي غير مجبرة على اعطائهم كامل ودائعهم (…) وتستطيع ان لا تتعامل بالبنكنوت”… تفجّر الرأي العام، الذي يعاني ضغطاً مادياً غير مسبوق منذ حوالى الشهرين، وصل بأحد المواطنين إلى القول: “لا نريد تحصيل أموالنا المنهوبة، نريد الإستحصال على أموالنا في البنوك”.
قد نستطيع تبرير ما تقوم به المصارف من عمليات “حجز” للودائع الكبيرة، أو تخفيض الفائدة عليها، أو إعطائها على دفعات للراغبين بسحبها، لكن ما لم يستطع احد تفسيره هو تقسيط رواتب الموظفين بمعدل لا يتجاوز مئتي دولار أسبوعياً، وإجبار محدودي الدخل على استعمال ما يتبقى من دخلهم بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1575 للدولار في الوقت الذي تحدد فيه أسعار السلع والخدمات على أساس سعر صرف للدولار يبلغ 2000 ليرة أو أكثر. إذا كانت “غلطة الشاطر بألف”، فان معاملة المصارف لصغار المودعين وأصحاب الرواتب “الموطَّنة” بنفس طريقة كبار المودعين، بمئة ألف غلطة. فبحسب المصرفي غسان شماس “هناك ما نسبته 0.1 في المئة من الودائع تعود الى حوالى 1500 حساب، تقدر قيمة أرصدتها بـ 40 مليار دولار. وان نسبة 1 في المئة فقط تعود الى 15000 حساب، تقدر قيمة ودائعها بـ 80 مليار دولار. أي أن 16500 حساب من أصل مليون و600 الف حساب تحوي 120 مليار دولار. وبالتالي فإن حرمان صغار المودعين من استخدام أرصدتهم بحرية تامة لن يؤثّر مطلقاً على السيولة، بل على العكس عدم تقييد حساباتهم يساهم بتنشيط الإقتصاد ويكسر الجمود في الأسواق”.
غياب الحوكمة… و”تبييض”
ما كانت تتفاخر به المصارف من بنيان مادي ومعنوي، سقط عند أول منعطف إقتصادي، و”على الرغم من ان التضييق على المودعين هو نتيجة إجبارية للأزمة الحادة غير المسبوقة، فإن تصرفها يبقى غير صحيح”، يقول المصرفي نيكولا شيخاني، وبرأيه فان “استمرار الأزمة من دون أي تغيير جدي سيفاقمها ويدفع الى مزيد من التقييد في الايام المقبلة”. وبحسب شيخاني، “على المصارف العودة الى الإدارة الحكيمة وعدم الاستنساب في تطبيق الحوكمة الرشيدة مثلما فعلت في تنفيذ “الكابيتال كونترول”، بطريقة غير معلنة. كما عليها المباشرة سريعاً بتدريب الموظفين، وتحديداً من هم في مواجهة مباشرة مع المواطنين القلقين والغاضبين، على إدارة الأزمات. إذ ان الأزمة مرشحة للتفاقم في الأيام المقبلة، وهي تختلف عن أزمات كل الدول لأن خطر العجز عن تسديد الديون مزدوج وسيأتي من الدولة والمستهلكين على حد سواء”.
انعكاسات التدابير المصرفية لن تقتصر على المودعين بل تهدد باستجلاب المزيد من العقوبات على لبنان، وتهدد بإقفال الكثير من المصارف. فالحاجة الماسة إلى السيولة والإستقتال على جذب الأموال الطازجة “fresh money”، تعمي عيون المصارف عن مصادرها. وبحسب الخبير الإقتصادي فادي جواد، فإن “ما تقوم به المصارف يشجّع على عودة تبييض الأموال، بعدما أصبحت جهودها تتركز على كمية الوديعة، وليس مصدرها الذي ممكن أن يكون من تهريب المخدرات أو الفساد او السرقة وغيرها الكثير من الأمور التي نجحنا في الماضي القريب في تخطيها من خلال الإمتثال لأنظمة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والمعايير الدولية”.
الأمين العام لاتحاد المصارف العربية وسام فتوح يستبعد ان تلجأ المصارف إلى هذه الخطوات “لانها تكلّف المصرف أكثر بكثير من الربح الذي ممكن ان يحققه من أي أموال جديدة، مهما كان حجمها”. إلا انه وبحسب شهود عيان فإن “المصارف لم تعد تسأل عن مصدر الودائع ولا تطلب المستندات التي تثبت أن الأموال نظيفة ومصدرها موثوق”.
الحلول الصعبة
أمام هذا الواقع تبدو كل الحلول غير كافية مهما كبرت. وبرأي شيخاني “لم يعد من طريقة لحل الأزمة الا تخفيف الدين العام عبر ما يعرف بـhaircut. فالدين العام يبلغ حوالي 86 مليار دولار وهو مقسم: 32 ملياراً بالعملة الأجنبية، منها حوالى 7 مليارات دولار محمولة من أطراف خارجية، وما يعادل 54 مليار دولار بالعملة الوطنية، وهي تشكل 150 في المئة من الناتج المحلي. وبالتالي لم يعد من حل إلا اقتطاع نصف الدين وتصغير حجمه بالقياس مقارنة مع الناتج المحلي الى 75 في المئة. هذا الإجراء لا يحمي الإقتصاد فقط إنما يمنع استحصال الدائنين الأجانب في الخارج على الذهب الموجود في الخارج في حال عجز لبنان عن سداد ديونه”.