تستعد المصارف، برعاية وتوجيهات البنك المركزي، الى وضع لمساتها في موضوع مكافحة الفساد المستشري في البلد. وسواء جاء تحرّك المصارف بدافع ذاتي، ام تلبية لمتطلبات الامتثال والحوكمة في ظل القوانين المالية العالمية، فإن الخطوة في حد ذاتها تستحق المتابعة للأهمية.
يبدو أن مسألة مكافحة تبييض الأموال تتوسّع في اتجاهات جديدة، قد تؤثر على مجمل المشهد المالي في البلد. وبعدما كان التركيز في الفترة السابقة مُركّزاً على ملف مكافحة التبييض المرتبط بتمويل منظمات ارهابية، او تبييض أموال المخدرات، يبدو ان المرحلة المقبلة ستشهد نقلة في اتجاه مكافحة تبييض أموال الضرائب غير المدفوعة.
وفي هذا الصدد، كانت هناك علامات استفهام في شأن تقاعس بعض المصارف في اداء دورها الرقابي في منع الفساد، من خلال زيادة التحقيقات التي تجريها في مصادر الاموال التي يتم ايداعها الصناديق، خصوصا تلك التي يقف وراءها موظفون في القطاع العام، رواتبهم محدودة، وهم يودعون في المصرف عشرات أضعاف رواتبهم كل شهر.
لكن ادارات المصارف تريد أن تركّز في المرحلة الاولى على مسألة التهرب الضريبي في الساحة المحلية. ويبدو ان هناك تحضيرات مصرفية بتوجيهات البنك المركزي، لمكافحة ظاهرة الدفترين المعروفة لدى المؤسسات اللبنانية. وتنصّ الاجراءات على ان يتولى كل مصرف الرقابة على زبائنه من الشركات، وهذا الامر ليس صعبا، على اعتبار ان المصارف تملك القدرة على التدقيق في دفاتر الشركات، لأنها تمولها.
كما أن لا مصلحة للشركات في تقديم دفتر الحسابات المزوّرة الذي يجري تقديمه الى المالية لاحتساب نسب الضرائب على الأرباح، على اعتبار ان الشركات لن تحصل على تمويل من المصارف اذا كانت نتائجها مخيّبة.
وبالتالي، فإن المصارف هي الجهة القادرة على الاطلاع على الدفاتر الأصلية، ومعرفة مداخيل وأرباح الشركات الحقيقية. وعليه، ستصبح المصارف بطريقة أو بأخرى، شريكة الدولة في منع التهرّب الضريبي، من خلال رفض التعامل مع اي شركة لا تعتمد دفترا واحدا وصحيحا للحسابات.
أما في موضوع مكافحة الفساد من خلال ممارسة الرقابة على ايداعات الاموال من قبل موظفي القطاع العام، فان هذا الملف أشد تعقيدا، في ظل المحميات السياسية، والعقبات التي قد تحول دون تطبيق هذا الأمر.
ومع ان ادارات المصارف تؤكد انها تمارس الرقابة على هذا الموضوع، وتمنع تسلل الاموال الوسخة الى صناديقها، الا ان ما يجري فعليا لا يوحي بذلك، خصوصا ان نسبة مرتفعة من الحركة المالية مرتبطة بسرقة المال العام، وعملية التنظيف قد تكون مُكلفة للمصارف.
تبدو الخطط الجديدة التي يجري التحضير لها على المستوى المصرفي، وكأنها تهدف الى تحضير الأرض للتماهي مع الاجراءات الدولية المتلاحقة، والقوانين المالية المستجدة، ومن ضمنها قانون تبادل المعلومات التلقائي.
وينكب مصرف لبنان بالتنسيق مع المصارف، على دراسة تداعيات البدء في تطبيق «غاتكا»، والاجراءات التي يمكن اتخاذها لتحويل الاتفاقية الى منصة جذب للأموال بدلا من أن تكون عامل تهريب للاموال الموجودة في المصارف اللبنانية.
وفي هذا الصدد، يتم التركيز على نقطة محورية، تتعلق بامكانية حجب المعلومات عن وزارة المالية وحصرها بجهة أخرى، موثوقة أكثر من قبل المتمولين، مثل البنك المركزي.
ويبدو ان المتموّلين اللبنانيين الذين يملكون أموالا في الخارج، لا يطمئنون الى وصول المعلومات المتعلقة بحساباتهم المصرفية الى وزارة المالية، ليس خوفا من دفع الضرائب القانونية المستحقة، بل تحسباً لتسريب المعلومات وتحويلها الى العلن لسبب أو لآخر. كما يتخوف هؤلاء من أن تتحول المعلومات في يد اي وزارة الى مادة ابتزاز لرجال الاعمال والمستثمرين والمتمولين اللبنانيين.
في المقابل، يدرس المصرفيون سبل الافادة من «غاتكا» لجذب ودائع اضافية الى لبنان. وهم يرون ان صدور قانون تعريف المقيم، من شأنه ان يساعد في هذا الاتجاه، كما انه قد يؤدي الى اعطاء الزخم للقطاع العقاري، ما دامت صفة المقيم ترتبط بامتلاك مسكن في لبنان، مقابل تأمين السرية المصرفية، وهو ثمن بخس سيدفعه كل المتمولين برحابة صدر، مقابل صون سرية حساباتهم المصرفية.