Site icon IMLebanon

تراث باراك أوباما السياسي!

في مذكراتها المنشورة بعنوان «أسمى مراتب الشرف» التي سجلت فيها ذكريات سنوات عملها مع الرئيس جورج بوش (الابن)٬ تقول كوندوليزا رايس: «ليس المهم للسياسي ما تنشره عناوين الصحف في الغد؛ المهم ما سوف يكتبه التاريخ عنه». وإن استعرنا هذه العبارة من أجل محاكاتها مع تراث باراك أوباما السياسي٬ فأي حكم سوف يصدره التاريخ عن خياراته السياسية؟ ما يعنيني هنا موقفه من قضايا الشرق الأوسط التي تبعثرت في الفضاء السياسي العالمي٬ ومن الصعب حتى «لمها» في حزمة واحدة.

فقط بعد خمسة أسابيع من الآن٬ سيكون هناك ساكن جديد في البيت الأبيض. وباعتراف نائب الرئيس الحالي جو بايدن٬ الذي نشره في مجلة الـ«فورن افيرز»٬ العدد الحالي سبتمبر (أيلول)/ أكتوبر (تشرين الأول)٬ حول «عمل الإدارة الديمقراطية الحالية»٬ فإن: «الإدارة الأميركية القادمة سوف تواجهُعسرا في التعامل مع السياسة الخارجية٬ معقدا وصعبا٬ لم تواجهه أميركا حتى في فترة الحرب الباردة٬ ولا حتى بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 .«إنه في هذا النص يعترف وهو يودع عمله الرفيع بأن «حبائل خارجية عصيبة» سوف تواجه الإدارة الأميركية في الشؤون الخارجية بسبب تعقد الوضع الدولي٬ وتشابك قضاياه.

ومن الإنصاف القول إن كل النتائج التي نراها اليوم في الشرق الأوسط٬ من حروب أهلية مدمرة وصعاب اقتصادية وهجرة إنسانية غير مسبوقة وفوضى ضاربة٬ ليس مردها جميعا إلى إدارة أوباما الحالية٬ فبعضها نبت وتراكم من إدارات سابقة٬ إلا أنه يصح القول إن «تفاقمها» جاء نتيجة «عدم الاحترافية» في الاختيار٬ أو ترتيب الأولويات٬ أو حتى تحديد التوقيتات٬ من قبل إدارة السيد أوباما.

من الحقائق أيًضا أن المنطقة العربية٬ وربما الشرق الأوسط٬ كانت أوساطها السياسية متفائلة بوصول رجل من خلفية أفريقية إلى البيت الأبيض٬ وأن ذلك يعني نقلة نوعية في الفهم والسلوك السياسي لشخص خبر وهو صغير مناطق من عالم إسلامي ممتد ومتنوع٬ ربما أثر في قاع فهمه للأمور٬ وكان ذلك التوقع إلى حد ما صحيًحا في السنوات الأولى للإدارة٬ وظهر خاصة في خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة٬ في 4 يونيو (حزيران) ٬2009 الذي اتخذ فيه «الأرضية الأخلاقية العليا»٬ وتحدث عن السلام بين العرب وإسرائيل٬ واستشهد بعدد من الآيات القرآنية٬ منها: «يا أيها الناس٬ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى٬ وجعلناكم شعوًبا وقبائل لتعارفوا٬ إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

واللافت أن الآية موجهة لـ«الناس»٬ وليس للمسلمين فقط. ومنذ ذلك التاريخ٬ جرت أمور كثيرة في مجرى داعية السلام والتعارف. فبعد عام ونصف العام فقط٬ بدا أن ملف السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد تعثر٬ ثم توقف٬ وفوجئت الإدارة أيًضا بشيء (تم التعارف على تسميته بالربيع العربي) يضرب الأرض العربية٬ ويهزها. وفي البداية٬ لم تكن الإدارة تعرف ما تريد من ذلك «الزلزال»٬ ثم حسمت أمرها٬ بأن نادت على القيادات «أن ترحل»٬ ولم يتوقف أحد للبحث في «اليوم التالي»٬ وكأن الأمور بطبعها سوف تتدحرج إلى «ديمقراطية جيفرسونية»٬ كما كان يرغب سيد البيت الأبيض٬ من خلال أرضيته «الأخلاقية العالية». إلا أن الأمر بدأ في التدهور في المواقف إلى حد التناقض٬ ثم الاحتراب البشع٬ حتى قال عن السيد طيب رجب إردوغان٬ في خلال بضعة شهور فقط٬ إنه «أحب سياسي إلى قلبه في منطقة الشرق الأوسط»٬ وإن «النموذج التركي يجب أن يُتبع»٬ ثم ألحق ذلك بوصف الرجل نفسه٬ بعد أشهر٬ بـ«الديكتاتور»!

لم تكن القفزات السريعة الراجعة فقط محصورة في تركيا٬ فقد قال بعد سقوط القذافي إن «الإدارة كانت تقود من المقعد الخلفي»٬ ثم تبرأت الإدارة من كل أدران ما بعد السقوط عند دخول ليبيا في مستنقع الحرب الأهلية. وأيًضا٬ من خلال «الأرضية الأخلاقية»٬ تم سحب سريع وغير متزن للقوات الأميركية من العراق٬ ثم تحولت العراق من احتلال من الغرب إلى احتلال من الشرق أكثر شراسة وديماغوغية. وليس في الأفق٬ حتى بعد العودة «غير المنظمة» للقوات الأميركية المحدودة للعراق٬ ما يشير إلى أن العراق سيقوم من عثرته التي أدخلته في نفق مظلم ليس لأحد القدرة على معرفة ما ينتهي إليه٬ حتى في السنوات العشر المقبلة. أما في سوريا٬ فإن الموقف أعظم وأفظع؛ تردد غير مفهوم٬ وتراجع غير منظم٬ زاد من اضطرابه ربما شخصية وزير الخارجية جون كيري الذي فشل في الانتخابات ضد بوش (الابن)٬ ليس لسبب إلا لما عرف عنه من تذبذب وصفته وقتها حملة بوش بأنه «فلب فلاب»٬ أي في المعنى العام: التوجه المراوغ إلى هدف غير المقصود.

سوريا في تاريخ السيد أوباما هي الفشل الأكبر٬ لأنه نتج عن ذلك التذبذب ملايين المهجرين٬ ومئات الآلاف من القتلى٬ ومدن مخربة ليس لها مثيل إلا المدن الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية! الأنكى أن تداعيات تلك المواقف السياسية سوف تستمر لعقود قادمة٬ مع استدعاء غير حصيف لقوة لم تكن موجودة على الأرض؛ هي الاتحاد الروسي٬ والدخول في شراكة معها على أرض لا يملكها أي من الطرفين! والسماح لقوة إقليمية باستخدام عناصرها العسكرية والميليشيات التابعة لها؛ وهي إيران٬ لقهر شعب  عربي! وحتى نضرب مثلا لهذا التذبذب٬ نستدعي الموقف المعارض لطلب تركيا منذ سنوات إيجاد «منطقة يحظر الطيران فوقها» لحماية قطاع من الشعب السوري؛ الآن فقط يطالب السيد جون كيري بذلك٬ بعد أن «طارت الطيور بأرزاقها»٬ كما نقول في الخليج! في وقت ظهر إلى العلن موقف الإدارة الأميركية الذي عارض أن يتخذ الكونغرس قرارا باعتبار بشار الأسد «مجرم حرب»٬ أو قرارا بحماية الشعب السوري! ومعارضة كشف أموال المتنفذين الإيرانيين! وفي الوقت الذي يرجح أن السيد أوباما لا يستسيغ التعامل مع السيد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي٬ تعقد في نهاية ولايته أكبر صفقة سلاح لم تعقد من قبل بين إسرائيل والولايات المتحدة!

على المستوى الخليجي٬ فإن عقيدة أوباما٬ أو حتى عقدة سياساته في المنطقة٬ تبرز كثيرا من تناقضات «الأرضية الأخلاقية العليا» لسياسة الإدارة الحالية٬ فهو يدعو دول الخليج للتشارك مع الإيرانيين٬ وكأن الأمر قضية مناصفة على شق «بطيخة»!٬ لا أن القضية في الأساس هي تدخل سافر وتوسعي من إيران تجاه العرب٬ُيسدد ثمنه بالدم في سوريا والعراق ولبنان واليمن وأماكن أخرى٬ وتخرب فيه دول٬ ويشتت بشر٬ وتهدم مدن!

من العدل أن نقول إن السياسة هي انتقاء خيار بين خيارات متعددة٬ وقد أخذت الإدارة الأميركية الحالية خيارا أقل ما يوصف به ­ إن حسنت النيات ­ الرغبة في «البعد عن التورط»٬ ولكنه اتضح أنه خيار مدمر٬ ليس للمتضررين في الشرق الأوسط فقط٬ بل أيًضا لعقر الدار الأميركية٬ فقد توقف القطار الواصل من واشنطن إلى نيويورك الأسبوع الماضي قبل ساعة من وصوله٬ وترك المسافرين يتنافسون على عدد قليل من سيارات الأجرة في منتصف الليل للوصول إلى مقاصدهم٬ وذلك بسبب تهديدات إرهابية مصدرها الأساسي التراخي في اتخاذ قرارات كان يجب أن تتخذ! هل سيكتب التاريخ أن السيد أوباما كان «حبيس» عقدة نشأته الأولى٬ وكونه ابن رجل مسلم٬ لذلك

اتخذ مسافة بعيدة عن نصرة الحق خوفا من الاتهام؟! ربما٬ التاريخ هو الذي سيقرر!! وعلينا أن نعترف أن إدارة العمل السياسي في الغرب لها آليات تختلف عن تلك التي تعودناها في فضائنا السياسي. وبالتالي٬ علينا في المستقبل أن نفهم تلك الآليات ونوظفها لخدمة مصالحنا٬ إلا أن ذلك أمر آخر٬ لأن ما نعتقد أنه عاصفة قد يتحول إلى إعصار!

آخر الكلام:

لعل أهم نتيجة لإرث الإدارة الحالية السلبي هي تدفق الناخبين للتصويت في السباق الأولي نحو السيد دونالد ترامب٬ وهزيمته لاثني عشر مرشحا من رجال الحزب الجمهوري؛ تلك الروحية في جزء منها سوف تصبح من التراث السلبي للإدارة الحالية.