تفخر حزين، البلدة الرابعة في تسلسل قرى حوض الليطاني في غرب بعلبك، كونها البلدة الأخيرة في قضائها التي لا تروي أراضيها من المياه الآسنة في نهر الليطاني، فقط بسبب تسليط شبكة صرفها الصحي إلى مجرى النهر بعد انتهاء أراضيها، في توثيق لاعتداء الدولة الأول على مجرى النهر، بعد إهمال مصادر مياهه في العلاق وحوش بردى وعين السودا.
في حزين أيضاً يُسجَّل أول الاعتداءات الصناعية على الليطاني بعدما حوّل معمل للألبان نفاياته الصناعية إليه. هناك يستقبل المجرى الجاف «رافده» الأول السائل على شكل سموم من مجرى معمل الألبان ليتحول إلى مستنقع آسن من الروائح الكريهة ومرتع للقوارض والحشرات والأهم التلوث.
يحرص مزارعو حزين على المجاهرة بعدم ري المزروعات من الليطاني الملوث. التنكر لمياه النهر هنا حلّ مكان كل تلك العلاقة الجميلة التي كانت تميّز الناس مع شريان حياتهم، الليطاني. وصار المزارعون الآخرون ومعهم المستهلِكون يقصدون حزين لشراء خضارها وفواكه أشجارها لنظافتها، قبل أن تعلن تبين الدراسات الأخيرة أن كل ينابيع وآبار المنطقة (التي لم تجف) حتى على بعد نحو أربعة كيلومترات عن الليطاني، هي ملوثة.
صار النهر تهمة، واستخدام مياهه للري مخالفة صحية تترك أثرها القاتل على أصحاب المواسم المروية منه. تكسد المنتجات إن علم مستهلكوها بمصدرها. عمد أهالي حزين، ولتعويض غياب الدولة عنهم، إلى حفر آبار ارتوازية لري أراضيهم المترامية نحو خراج سفح السلسلتين الشرقية والغربية على الناحيتين.
وقبل حزين لناحية بعلبك تمتد على مساحة ثمانية آلاف دونم. نالت الحرب الأهلية من روح القرية الفقيرة، فتهجر أهلها المسيحيون من دون أن تحصل مشاكل فعلية مع محيطها.
يومها، بتاريخ 17 كانون الثاني «المشؤوم» من العام 1976، تهجر ناسها. يقول بعض من هُجّر منها أن المكتب الثاني هو من افتعل الهجوم على حوش بردى في استكمال لمسلسل تهجير الضاحية الشرقية لبيروت.
لم يبق من 663 ناخباً، كما يقول مختارها وديع أبو حيدر، سوى الناخبين الشيعة (116 صوتا جاؤوها بعد الحرب) فيما لم يعد بقية سكانها الأصليين للعيش فيها. غادروا إلى زحلة وجبل لبنان خصوصا وبعض ضواحي بيروت الشرقية. وحده المختار عاد مع والديه وعائلته. «سكان البلدة من الشيعة اشتروا بمالهم الأراضي من أهل الحوش ولم يستولوا عليها» يقول أبو حيدر، ليؤكد أنه وبعد انتهاء الحرب عاد ليربي أولاده في ضيعته التي يشعر بالانتماء الحقيقي إليها برغم الإهمال البادي على نواصي طرقاتها وفي حقولها وزواريبها.
أبو وديع نفسه، والد المختار والرجل المسن الذي غاب قسرياً عن ضيعته، قال لابنه: «سنعود إلى أرضنا يا وديع». وكان له ما أراد.
ما زال لدى «أبو وديع» ذكريات لم تَمْحُها سنونه التي تقارب التسعين. كان الرجل صيادَ بطٍّ ماها، وإلى ليطاني الحوش كان يقصده أصدقاء من بيروت والشمال. يذكر المختار أن الأهالي كانوا يحفرون نصف متر فقط لتتدفق المياه إلى ما يسمونه الآبار العربية. لم تكن الآبار الارتوازية قد جففت الينابيع الجوفية. وكان نبع الحوش المعروف بـ «راس النبع» يهدر نحو الليطاني. اليوم صار الأهالي يحفرون نحو ستين متراً ليستخرجوا «إنش» ماء. وكما معظم قرى البقاع تخرج الماء غير صالحة للشفة، فتستعمل للري وللخدمة المنزلية.
يتأسف المختار وديع أبو حيدر لأن البلدة تفتقر إلى شبكة هاتف وشبكة ماء، فيما أقفلت مدرستها الرسمية الوحيدة أبوابها.
وهناك على ضفة الليطاني غاب «راس النبع» الذي كان يأتي بالنهر من الحوش مشكلاً حداً طبيعياً بين القرية وجارتها العلاق. وبرغم سوء الحفر الصحية الموجودة تحت كل بيت إلاً أن مختار حوش بردى يعبر عن سروره كون بلدته لا تساهم في تلويث الليطاني «الحق مش ع الناس بس، الحق على عدم معالجة تلوث المياه المبتذلة من بعد حزين ولغاية مصب النهر في صور»، وفق ما يرى.
لم ينصف صندوق المهجرين، وفق المختار، الحوش، فلم يَكْفِ المال الممنوح كتعويض لإعادة الحياة إلى الدور التي دمرتها الحرب ولا لاستئناف العيش فيها.
ومع تهجر أهلها واستكمال نزوحهم عنها، صار اللاجئون السوريون هم الغالبية في البلدة بعدما توزعوا على سبعة مخيمات عشوائية شّيد معظمها على ضفة الليطاني القاتل في الحوش، ليصل تعداد سكانها إلى 1750 سوريا.
العودة إلى حزين
يحدد مختار حزين مهدي محمد الضيقة العام 1997 كتاريخ «أسود» لبلدته المفروشة في سهل غرب بعلبك على يسار الطريق الدولية نحو حمص. قبل هذا التاريخ الذي أرسلت فيه الدولة مجارير الصرف الصحي لبلدة بريتال ومعها الحمودية بمحاذاة حزين نحو الليطاني، كانت حزين أشبه «بالجنة». سلط أصحاب الشأن المياه الآسنة في قناة مفتوحة فتحول الجانب الجنوبي لحزين إلى مستنقع كريه تكثر فيه القوارض والحشرات، والأهم: تملأ روائحه الكريهة البلدة عندما تهب الرياح. حوصرت حزين بالمياه الآسنة جنوبا ومعها روائح سموم معمل «ليبان ليه» المسلطة على النهر قبل النقطة الرابعة بقليل، بالإضافة إلى روائح معمل سعادة من ناحية الغرب. لم تعد الحياة تطاق وتفشت الأمراض التنفسية والصدرية بين أبناء البلدة، وصار الطفح الجلدي عدو الأطفال.
استغرقت معركة حزين خمس سنوات لإرغام أصحاب القرار على «ضبضبة» مجارير بريتال في قناة جر إلى الليطاني مباشرة، ولكنهم وكما 650 مؤسسة صناعية تلوث النهر من غرب بعلبك إلى سد القرعون بقاعاً، لم يفعلوا شيئا مع الملوثات الصناعية، عدا عن أنهم لم يتكلفوا عناء تنفيذ محطة تكرير المياه الآسنة وتشغيلها.
يضع المختار طاولة ودزينة كراسي أمام منزله بين أشجار الحور والصفصاف. جلسة لا يهنأ بها عندما تفح الروائح عصراً فيقفل عائداً إلى منزله ويوصد شبابيكه وابوابه لصد الذباب والبعوض عنها. ينتشر البعوض والبرغش والحشرات في فضاء حزين بسبب التلوث الذي يحيط بها من جهاتها الثلاث.
لم يبق من الطاحونتين على نبع حزين سوى الآثار. حفرت الآبار الارتوازية في البلدة لتعويض غياب خطة واضحة للري وحماية حرم النبع، كما قلت الثلوج والأمطار على الجبال، فمات النبع وجف ولم يعد يتفجر حتى في عز الشتاء، مع أنه كان يتدفق بنحو مئة إنش ماء، أي أشبه بجدول صغير.
لا مدرسة ولا مستوصف..
لا تتعدى رخص الدخان في حزين أكثر من عشر رخص. وزعت هذه الرخص على محسوبين وأزلام، كما يقول أحد الفلاحين، ليشير إلى أن أحد النافذين «يملك نحو 300 رخصة دخان برغم أنه لا علاقة له بالزراعة». تقول لأهالي البلدة أن آبارهم هي التي جففت النبع فيسألونك عن البديل «إذا كانت الدولة مش سائلة عنا، شو منعمل؟ هل نموت من الجوع أم نترك أراضينا بورا ونزحف إلى المدن للعمل كعمال مياومين أو نواطير أبنية؟». وفعلاً يعيش أكثر من سبعين في المئة من أهل حزين على الزراعة من كروم وبيوت بلاستيكية وحقول مفتوحة.
وكما جاراتها، أقفلت مدرسة حزين الرسمية أبوابها، فيما لم يكلف المعنيون أنفسهم عناء فتح مستوصف واحد فيها. يقصد أهلها بعلبك على بعد 15 كيلومتراً للتطبب حتى من ألم الرأس، ويرسلون أولادهم للعلم خارجها.
يدفع مزارعو البلدة «ما فوقهم وتحتهم» لتأمين الأكلاف الزراعية، وحين يتعثر تسويق مواسمهم لا دعم يتلقونه ولا من يفتقدهم من الرسميين. «نستدين لنكمل الموسم المقبل». بعد 16 عاماً على إنشاء شبكة المياه في حزين، لم ير مواطنو البلدة لغاية اليوم نقطة ماء واحدة فيها. يقول المختار ان جيلاً كاملاً من كبار السن مات قبل أن يرى مياه الدولة في صنابير المنازل. في المقابل، تنشط تجارة الفلاتر العشوائية في المنطقة حيث يتهيأ للناس أنهم يحمون أنفسهم من التلوث، كما يقول البعض أنه ينقي المياه ومن ثم يبيعها للأهالي
دبرني يا مختار…
وفي غياب فرص العمل والمؤسسات الإنمائية قصد المختارَ شابٌّ من حزين يحمل أربع شهادات جامعية ليتوسط له للدخول كعنصر إلى قوى الأمن. قال الشاب الذي أفنى عمره بالعلم: «ما عندي ضهر يا مختار دبرني». يقول الأهالي أن المنطقة بـ «أمها وأبيها بلا ضهر»، فمن يدبرها.
وأمام مصطبة أبو حميد في البلدة يجلس بعض الرجال من كبار السن. يسخر هؤلاء من انشغال المسؤولين والقوى السياسية في ما يسمونه «قضايا كبرى محلية وإقليمية» فيما هم قابعون هناك يصارعون مرارة الحياة وحدهم: «نريد أن نشعر وإن لمرة يتيمة أننا أبناء هذه البلاد التي نحمل هويتها».
في حزين صار لليطاني ثلاثة روافد للماء في مجراه: النفايات الصناعية من معملي رولان سعادة و «ليبان ليه للألبان» والمياه الآسنة المتدفقة من بريتال والحمودية وحزين…»روافد» تفعل فعلها في سهل الحُشبة وما يليها، بين خراجَي طاريا وشمسطار من ناحية الغرب وطليا من الشرق.