في غمرة التحولات الجديدة في المنطقة بعد التفاهم السعودي – الايراني على التبادل الديبلوماسي، وعلى وقع الحراك الذي تقوده مجموعة الدول الخمس التي شكّلت فريقا داعما للبنان، تصل الى بيروت مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف لتشكل اولى الاطلالات لمسؤول اميركي رفيع يُعاين الوضع في لبنان بعدما جابت اكثر من عاصمة عربية. وعليه، ما الذي تحمله مجدداً غير معاينة ما توقعته من شلل وانحلال في لبنان منذ فترة بعيدة؟.
يستقبل لبنان في الساعات المقبلة إحدى أهم الخبيرات في شؤون الشرق الاوسط والخليج العربي بعدما عاشت معظم التحولات الكبرى في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات. فهي باربارا ليف التي تولّت مهمة مساعدة لوزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى مع دخول الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض في 22 كانون الثاني العام 2021 وتعيين السيد أنتوني بلينكن وزيراً للخارجية، وكانت قد تولّت مسؤوليات عدة في وزارة الخارجية وفي اكثر من موقع كانت فيه على تماس بشؤون الخليج العربي وإيران ودول الشرق الأوسط لسنوات توسّعت فيها مهماتها بأدق التفاصيل التي رافقت كل ما يتعلق بالملف النووي الايراني وتداعيات الغزو الاميركي للعراق بعد العام 2003 واحتلاله الكويت.
وقد شغلت ليف في بداية القرن مناصب دبلوماسية في روما وسراييفو وباريس والقاهرة وتونس والقدس وبورت أو برنس، قبل ان تعيّن نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شبه الجزيرة العربية في «مكتب شؤون الشرق الأدنى»، ونائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون العراق تحديداً. وهي التي أدارت «فريق إعادة الإعمار الأميركي» لمدينة البصرة بعد العام 2003 وترأست لسنوات عدة «مكتب الشؤون الإيرانية» في وزارة الخارجية الأميركية ابّان المفاوضات المعقدة في شأن الملف النووي الايراني بكثير من تفاصيله قبل توقيع الاتفاق في تموز 2015 من موقعها الذي تسلمته العام 2014 ولأربع سنوات كسفيرة الولايات المتحدة لدى الإمارات العربية المتحدة قبل ان تترك مواقعها الديبلوماسية لتنضمّ إلى «معهد واشنطن».
وقبل وصولها الى بيروت جالت ليف على تونس ومصر والاردن حيث التقت كبار المسؤولين فيها، وهي في طريقها الى معاينة المنطقة عن قرب في ضوء مجموعة التحولات الاخيرة التي شهدتها هذه البلدان وانعكاسات التفاهم السعودي ـ الايراني برعاية صينية وما تلته من تحركات أحاطت به قبل معاينة الخطوات المُتسارعة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران ومعهما مجمل دول مجلس التعاون الخليجي على وقع الخطوات المؤدية الى الانفراج المنتظر في أزمة اليمن، من دون إهمال معاينتها للخطوات الجديدة الهادفة الى ترميم العلاقات بين مصر وتركيا بعد عشر سنوات من القطيعة بعدما تزامنت زيارتها للقاهرة مع وجود وزير الخارجية التركي في زيارة غير مسبوقة إليها.
وأيّاً كانت الظروف المحيطة بجولة ليف على المنطقة يجدر التوقف امام تداعياتها اللبنانية، فهي ممّن توقعوا كثيرا من التطورات السلبية التي شهدتها البلاد قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منذ دخول البلاد مهلة الايام الستين الفاصلة عن نهاية ولايته، والتي كان من المفترض ان يُصار الى انتخاب الرئيس الخلف فيها. فهي من أطلقت سلسلة تصريحات حادة مُحذّرةً في توقعاتها مما قد يحصل في حال فشل المجلس النيابي من انتخاب رئيس للجمهورية ومقاربة الأزمات النقدية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان على مختلف المستويات.
وللتذكير ببعض مواقفها فقد حذّرت من انّ الفشل في انتخاب الرئيس من شأنه ان «يؤدي بلبنان إلى فراغ سياسي غير مسبوق، ما يُنذر بانهيار الدولة مجتمعياً». وقالت في اطلالة تلفزيونية انه و«منذ تولّي إدارة بايدن الحكم، شاهدت الإدارة الأميركية تعاقب الأزمات التي صادفت لبنان» وجدّدت قولها مرة أخرة بفارق دقائق بـ«انها لا تهدد الإقتصاد فقط، بل تُنذر بانهيار الدولة»، وعَدّدت بالتفصيل ما «وضعته إدارتها من خطط لمساعدة لبنان إن كان عبر دعم الجيش اللبناني أو عبر تسهيل اتفاقيات الطاقة أو دعم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي». واستطردت: «لكن كل هذه التدابير لن يكون لها تأثير ما لم ينتخب البرلمان اللبناني رئيساً للجمهورية، وقد فشل في ذلك، ما يترك لبنان في فراغ سياسي غير مسبوق». وختمت تحذيراتها بالقول: «هذا الشيء لا نستطيع أن نفعل به شيئاً، فهم عليهم فِعل ذلك».
وقياساً على المواقف هذه والتي تنم عن مدى فهمها لملف لبنان، تأتي زيارة ليف اليوم في وقت تزداد الشكوك بقدرة لبنان على تنفيذ ما تعهّد به في أكثر من وثيقة وبيان من إصلاحات مطلوبة بإلحاح لترجمة ما قال به الاتفاق الذي وقّع على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان العام الماضي، عَدا عن تعثّر الخطوات المطلوبة لترجمة شروط البنك الدولي لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية، وهو امر مُربك جداً ويؤدي في حال استمراره الى مزيد من الانهيارات التي قد تصل الى مرحلة يعجز فيها الداخل والخارج عن وقف تداعياتها النازفة في جسد الوطن ومؤسساته.
وعليه، فإنّ مثل هذه المؤشرات لم تعد خافية على أحد لمجرد فقدان السلطة الاجرائية المتمثلة بوجود رئيس للجمهورية والفشل في إقرار بعض القوانين الإصلاحية وتشكيل الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة يجعل من المواقف الاميركية والدولية والاممية مجرد نصائح وهمية لم يستوعب اللبنانيون بعد خطورتها، خصوصاً ان صَحّت بعض التوقعات التي تتحدث عن توجهات تقود الى الإستغناء عن صندوق النقد الدولي والاستعانة بقدرات من مصادر أخرى قد تكون من الشرق الذي يعاني اكثر من لبنان. أو عبر مبادرات داخلية لم تكتمل صورتها بعد لكنها ستبقى من دون قدرة اي فريق او مؤسسة على فتح خزائن دول الخليج العربي للمساعدة فور إنجاز هذه التفاهمات مع الصندوق او البنك الدوليين اللذين يشكّلان جواز عبور الى احياء علاقات لبنان مع دول الخليج والدول والحكومات المانحة.
وقياساً على ما تقدّم، فإنّ زيارة ليف – وبحسب مراجع ديبلوماسية تابعت التحضيرات لزيارتها- ستأتي لتُلقي الضوء على ما يمكن ان تقود اليه مساعي مجموعة السفراء الخمسة التي جمّدت أعمالها بمعزل عن اللقاءات الثنائية بين أطرافها. وان بقي الوضع على ما هو عليه، فإنها قد تعطي مؤشراً الى انفصال لبنان عن مسار التفاهم الايراني ـ السعودي في ظل النفي لوجود وثائق سرية ملحقة بتفاهم التبادل الديبلوماسي تتناول الدول المضطربة بسبب نزاع الطرفين. ومردّ ذلك إلى نظرية تقول ان ايران لا تريد ملف لبنان على طاولة البحث مع السعودية، وما زال الاهمال السعودي ماثلاً للعيان ما لم يتجاوب اللبنانيون مع مقتضيات مواصفات الرئيس ومقتضيات «الوثيقة الكويتية» التي جمّدت بعض العقوبات الخليجية في حق لبنان، وهو أمر يُنبىء باستمرار المعادلة السلبية التي لا يمكن ان تبنى بمرحلة التفاهم على انتخاب رئيس جديد للجمهورية مع تزايد الترددات السلبية، وهو ما ستُعاينه ليف حيث سيكون في إمكانها التثبّت بالعين المجردة من صدق توقعاتها السلبية السابقة.