كلام في السياسة |
لا شيء يحصل في أميركا عفواً أو سهواً أو صدفة أو مصادفة. فهذا البلد قائم في أساسه الفكري العقائدي الأول، على شيء من فلسفة ماكس فيبر، حول الدمج بين الدنيا الآخرة والدنيا الراهنة. أو بين السماء والأرض. كل شيء تقريباً في العقل الأميركي، متلازم مترابط بين الفكر والعمل.
في ضوء هذا الفهم للمفهوم الذي قامت عليه «ديمقراطية» جفرسون، يمكن قراءة مسارين لافتين في السلوك الأميركي هذه الأيام: مسار التبديل المورفولوجي الكامل للعبة باربي الشهيرة، ومسار الحبكة الجديدة الثابتة في صناعة هوليوود.
أن تغير دمية شكلها التسويقي، قد يكون مسألة عابرة أو تافهة، لو أن الدمية المذكورة لا تحمل اسم باربي، أو لو أن إعلام واشنطن لم يحتف بتغيير شكلها كما فعل. فباربي، ابنة الأعوام السبعة والخمسين، ليست مجرد لعبة. ولا هي منتوج تجاري استهلاكي وحسب. هي في العمق والفعل، وسيلة من وسائل الغزو الأميركي للعالم. أداة من أدوات تطبيعه وتنميطه وترويضه وتعليبه لكوكبنا. هي «سلاح» آخر، من مروحة «الأسلحة غير القاتلة». مثل الجينز. أو مثل بيغ ماك الذي جعل علماء الاقتصاد والسياسة ذات يوم يشتقون من مطبخه فعل «المكدنة»، من ماكدونالد، كمرادف لفعل الأمركة. باربي هي الصورة النمطية لنظام كامل، في الاقتصاد والثقافة والسياسة. يملكها وتتملك هي عقول 150 بلداً حول العالم فقط. هكذا شكّلت باربي منذ نهاية الخمسينات، سفيرة «القوة الناعمة» لنظام واشنطن حول العالم. تحمل أفكار النظام المضغوطة في مادة بلاستيكية. تماماً كما كانت مادة بلاستيكية أخرى، اسمها سي 4، تحمل «القوة الوحشية» للنظام نفسه إلى العالم نفسه. وكانت باربي النموذج الذي تريد واشنطن أن تقدمه لنفسها إلى سكان الأرض. كما النموذج الذي تريد لهؤلاء السكان أن يكونوه. سنة 1965 خرجت باربي في شكل رائد الفضاء. كان زمن السباق المحموم بين واشنطن وموسكو حول غزو العالم الخارجي. وكان زمن التقدم السوفياتي على الأميركيين مع سبوتنيك ويوري غاغارين. وكان طبعاً زمن وعد «الشهيد» جون كينيدي لشعبه «العظيم» بالوصول إلى القمر قبل نهاية ذلك العقد… لم تتأخر باربي عن التجند في خدمة البروباغاندا الأميركية، فلبست ثوب رائدة الفضاء. سنة 1973، صارت باربي طبيبة جراحة. يومها، قالت الشركة المصنعة، أن 9 في المئة فقط من جراحي أميركا كانوا من النساء. وكان المطلوب تسويق نظرية «تفعيل» دور المرأة. ومرة أخرى كانت باربي في الخدمة… حتى آخر الصيحات والخدمات. أصلاً، نظرة سريعة على تاريخ الشركة المصنعة، تظهر هذا التلاحم بين منتجاتها وبين الغزو الأميركي الاستهلاكي ــــ الثقافي. الشركة نفسها تعطي العالم ألعاب فيشر برايس، وهوت ويلز وماتشبوكس وبورد غايمز وسواها الكثير من عناوين ذلك الغزو.
ثم، ليس تفصيلاً أن تطل باربي اليوم بتحولها المورفولوجي الجديد، ضيفة على غلاف مجلة تايم الأميركية. هي المجلة التي تعد غلافاتها أفضل تأريخ للنظام الأميركي وتحوّلاته وعقله. لتنضم باربي إلى سلسلة من أسماء صناعة التاريخ الأميركي والبشري، من رؤساء البيت الأبيض، إلى بيل غايتس وستيف جوبز وبن لادن والكومبيوتر والقلق.
لماذا باربي الجديدة الآن وعلى غلاف تايم؟ ربما لأن هاجساً أميركياً أساسياً يسكن عقل أميركا الراهن، هو تآلف «الأمة الأميركية» في نوازعها الجديدة وتفسّخاتها المستجدة. في زمن صعود «الهيسبانيك» وعودة صراع الأميركيين الأفريقيين ورئاسة واحد منهم وأزمات المهاجرين الجدد. في زمن خوف أميركا على «اتحادها»، كما على «ألوان» رايتها الواحدة، خلعت باربي جلد «الرجل الأبيض». غيّرت لون شعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين، ولبست ثوب الفسيفساء الأميركية المتحولة والهشة.
يبقى مسار آخر في عقل الأدلجة الأميركية، اسمه هوليوود، كمصطلح لصناعة الشاشتين الكبيرة والصغيرة في امبراطورية العام سام. هذا العقل الذي من أهدافه الأساسية صناعة «العدو» الدائم للحلم الأميركي. في زمن الحرب الباردة، كان الجاسوس الروسي هو الطاغي. لا ينافسه هوليوودياً إلا ذلك الجهد الهائل لنظام كامل، من أجل استخراج سندروم فييتنام من عقل ناسه، وتطهير نفوس مئات الآلاف من صورة حائط القتلى والمفقودين قرب مسلة جورج واشنطن. في زمن الريغانية، أضيف إلى ثنائية الجاسوس وأكياس الجثث، صورة رامبو وروكي. البطلان اللذان على مثال الممثل الرئيس، ينتقم أحدهما من فييتام وكوريا إلى أفغانستان. فيما يضرب الآخر الملاكم الروسي على إيقاع «عين النمر». بعد سقوط موسكو السوفياتية، وبداية النظام العالمي الجديد، الأحادي القطبية بهيمنة أميركية وجموح واشنطن صوب ما هو أبعد من الأرض، كانت موجة الخيال العلمي، وسينما التقنيات المذهلة، وأشرطة العالم المحكوم من مكتب أو علبة أو اختراع أو خوف نهاية.
اليوم، هناك «برتوتايب» جديد لهوليوود. الإرهاب. وفي صلبه ثابتة لا تتغير: مسلم أصولي، سني وشيعي معاً، ونظام عربي مموّل أو مشغّل. واللافت جداً وأكثر، حلول بيروت كمحطة هوليوودية شبه ثابتة، في حبكة انتقال الخطر إلى أميركا، أو نجاح البطل الذي لا يموت في مكافحة الإرهابيين. صورة نمطية جديدة، على شاكلة مسلسل «هوم لاند»، أو الأرض الأم. أجمل ما في مصادفات المسلسل المذكور بصوره النمطية تلك، أنه مقتبس من مسلسل تلفزيوني آخر، من جنسية غير أميركية، اسمه «هاتوفيم»، كانت تنتجه اسرائيل!
باربي التعددية والسرجنت برودي المحارب للإرهاب الإسلاموي، هي مكونات عقل أميركا اليوم وغداً. أما نحن، فيكفينا أن نكون متفرجين على كل ما يكون في مرحلة من فرجتنا، ذاك الفيلم الأميركي الطويل.