لا يعني الكلام عن برشلونة، في هذا الوقت، الهروب من الحريق الذي يعصف بعالمنا العربي من كسب الى عدن. بعض ما جرى ويجري في برشلونة، وهي واحدة من اجمل المدن في العالم والمساحة الكاملة لإسبانيا حاليا، فيه الكثير من التشابه والدروس التي لو قُرئت بعمق لتبين بوضوح انه يمكن الاستفادة منها لمواجهة بعض ما يعصف بِنَا حاليا.
لا يوجد في عالمنا اليوم من لم يسمع ببرشلونة ليس لانها مدينة جميلة ولا لانها تريد وهي عاصمة كتالونيا ان تستقل عن اسبانيا، ولكن لان فيها احد اعظم واقوى فرق كرة القدم ولان بطله ميسي يكاد يكون رئيس العالم بسبب شعبيته، ولكن وهنا لعبة « البزنس» لانه نقل عبر قميص الفريق، قطر جغرافيا الى كل دار. هذا هو ذكاء « البزنس « اذ يستطيع تحويل العالم الى جزيرة والعكس صحيح مع الحصول على أرباح مالية ضخمة، كل ذلك على قاعدة التعامل في هذا في استراتيجة مدروسة نقطة نقطة. لا يوجد نجاح بلا خطط واستراتيجية وتكتيك وتنفيذ دقيق. تماما كما يلعب برشلونة وغيره من الفرق العالمية. كل هذا عكس ما يجري في اقتصادنا حيث الفوضى هي الخلاقة على قاعدة «يا ربي تجي بعينه».
لو اقتصر الامر على الاقتصاد في لبنان، لهان الامر مثلا. مثال على ذلك الثورة في سوريا وقتال النظام وكل الدول المشاركة. اربع سنوات وليس لدى اي « فريق» خطة ولا استراتيجية، ضربة من هنا وضربة من هناك والنتيجة المزيد من الضحايا والفوضى والأفق المفتوح على المزيد من الخسائر والضحايا. هذا الوضع لا يعني أبدا اننا وحدنا نتميز بهذا الغرق في الموت والخسائر. اسبانيا نفسها، عانت الحرب الأهلية قبل سنة تقريبا. اختلط كل شيء على الجميع. وضعت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية كل ثقتهما الى جانب فرانكو، في حين بقي التحالف الواسع من القوى اليسارية ومن ضمنه «لواء ابراهام لنكولن» بلا دعم مبرمج وصلب من الدول الخارجية وتحديدا بريطانيا بحجة «عدم التدخل»، فكانت النتيجة نصف مليون ضحية من الإسبان، وانتصار الفاشية، المثير ان لا احد يبقى بلا عقاب او سياسيا بلا حساب. دفعت بريطانيا الثمن في الحرب العالمية الثانية في المواجهة مع هتلر والنازية. مع بعض التغيير في الوقائع والأسماء والتوصيفات، العالم وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية سيدفعون ثمن إدارة و»تنظيم « الحرب من بعيد ودون التدخل في سوريا. بدل النازية تطل اليوم « الداعشية « وهي ربما اخطر لانها قادرة على الدخول الى كل منزل في جميع أنحاء العالم خصوصا أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
بعيدا من الحروب، اسبانيا تعيش على وقع مطالبة الكتالونيين والباسك بالاستقلال. الاخيران اعتمدا نهج العمل المسلح منظمة» ايتا». الشعور القومي ما زال قويا وراسخا خصوصا لدى الباسك. برشلونة التي تختصر كتالونيا جربت الانفصال ديموقراطيا. في النهاية تغلب الاقتصاد ولم يحصل الانفصال. من المضحك المبكي ان الانفصال كان سيخرج « البرشا»من الدوري الإسباني والخسائر المعنوية لا تقل عن الخسائر الاقتصادية. ليس بالايدولوجيا ولا المشاعر القومية يعيش الانسان فقط خصوصا ان تنفيذها يعني احيانا التراجع في كل شيء في وقت يتقدم فيها العالم بسرعة تتراكم خلاله المليارات وليس الملايين. اللامركزية الحقيقية حلت الكثير من المشاكل وهي قادرة على انتاج آلية تغني المشاعر والاقتصاد.
يبقى حديث آخر عن برشلونة وبيروت وما بينهما السياحة. بضعة ايام في مدينة الشمس والبحر وبيكاسو وغودي، تؤكد ان الثروة ليست في امتلاك هذا كله وإنما في توفير الأمن والاستقرار والمجتمع المدني الذي يحترم كل شجرة ( وانا أسير في شوارع برشلونة وخصوصا في « لمبادا» تذكرت بعلبك الجريحة والأسيرة كيف قلعت أشجارها وصحّر طريق راس العين بأمر من ضابط سوري لا يهم اسمه وشريكه الوزير ابن بعلبك نفسها وجرت «شودرة« آثارها وتحول اجمل مهرجان سياحي في الشرق الى اسم بلا مسمى). السياحة صناعة متقدمة، ولكن ايضا مساهمة يومية من كل مواطن كما في برشلونة حيث حتى السائح العربي تعلم ان لا يرمي سيجارته على الارض وكأن ذلك أمر عادي. بيروت قادرة على الكثير تملك كل شيء من البحر الى الفنانين الكبار، ينقصها القرار وعدم اقفال الساحات ودفن كل معالمها وغناها تحت شعارات الكثير منها هدفه وأد الاقتصاد والنجاح.
اسبانيا عاشت الحرب الأهلية وعرفت قديما تسلط الكنيسة، وخرجت منهما. العالم العربي يعيش حروبا أهلية متعددة ليست جميعها بالاسلحة وإنما ايضا بوضع المال في جيوب «محدودة»، وحجب التنمية، والتفرقة وغياب المساواة في التنمية الشاملة والتسلط والتصحير السياسي والاهم وأد الديموقراطية وكل حركاتها الى درجة تجفيفها كما يحصل اليوم بوضع اجيال كاملة امام الخيار بين ديكتاتوريتين ظلاميتين «الأسدية« و«الداعشية«!!