حين زار وزير الخارجية الأميركي القاهرة الشهر الماضي، خطف هجومه على ايران الأضواء من تخصيصه جانباً مهماً من خطابه في الجامعة الاميركية للحديث عن التطبيع العربي – الإسرائيلي. لكن تبيّن لاحقاً أن عبارة «حان الوقت لتجاوز عداوات الماضي» كانت الرسالة التي جاء من أجلها. وعندما أعلن مايك بومبيو في اليوم نفسه عن جمع عشرات الدول في مؤتمر في العاصمة البولندية وارسو «للتركيز على الاستقرار والسلام والحرّية والأمن في الشرق الأوسط» موضحاً أن «هذا يشمل عنصراً مهمّاً هو تأكيد إلّا يكون لإيران نفوذ مزعزع للاستقرار» في المنطقة، ظل الانطباع العام بأن مؤتمر وارسو سيكون استمراراً للحملة الأميركية على ايران وخطوة أخرى على طريق بناء تحالف واسع ضدّها، بدليل إن طهران باشرت من جانبها حملة شرسة على المؤتمر المزمع حتى أن محمد جواد ظريف استخرج من التاريخ ما اعتبره «انقاذاً» لبولنديين من الاضطهاد الستاليني ليستخلص أن بولندا تردّ على الجميل بعمل عدائي.
في الأسابيع التي تلت ومع اقتراب موعد المؤتمر (اليوم 14/02) خفت الهياج الإيراني، وراحت المصادر الأميركية تركّز على «خطة السلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو ما يُعرف بـ «صفقة القرن». راقبت واشنطن وكذلك طهران مواقف الدول الأوروبية، فهي التي ستصنع الفارق في وارسو. وفيما ضغطت ايران للحصول على الآلية الاوروبية الخاصة للتجارة معها بالالتفاف على العقوبات الأميركية، استنتجت الولايات المتحدة من مصادقة بروكسيل على تلك الآلية أن الأوروبيين، على رغم ادانتهم البرنامج الصاروخي الإيراني، ماضون في تصميمهم على مناوأة الاستراتيجية الاميركية لاحتواء ايران. فعلى رغم ادانتها البرنامج الصاروخي الإيراني وقصرها تلك «الآلية» على تبادل تجاري في مجالَي الصحة والأغذية، مع اشتراطات كعدم التعامل مع البنك المركزي الايراني (المشمول بالعقوبات) واحترام طهران القواعد الدولية ضد تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إلّا أن دول الاتحاد ولاسيما فرنسا وبريطانيا والمانيا متمسّكة بالاتفاق النووي ومتحدّية للعقوبات ورافضة عزل ايران. فأكثر ما يحاذره الأوروبيون هو تزكية دونالد ترامب في أي توجّه حربي ضدّ ايران، ولذلك بقي موقفهم فاتراً ازاء فكرة مؤتمر وارسو وأجندته، وإنْ لم يذهبوا الى حدّ مقاطعته.
فجأةً غادر مستشار الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر خلوته مع المبعوث الخاص جيسون غرينبلات، وعاود الظهور ممهّداً لمرحلة جديدة في مهمتّه. «الخطة»/ «الصفقة» جاهزة، على ما يقال، وإنْ بقيت سرّية. كان يراد إعلانها، وفقاً لشريكهما الثالث السفير في إسرائيل ديفيد فريمان، إلا أنه أرجئ بعد دعوة بنيامين نتانياهو الى انتخابات اسرائيلية مبكّرة سواء لكسب الوقت ضد اتهامات الفساد التي تلاحقه، أو لكسبه أيضاً بتأجيل «الصفقة» نفسها، إذ يخشى أن تفسد نسختها المنقّحة علاقته مع ترامب. هذا لم يمنع إطلاق تسريبات مبرمجة ومدروسة، عبر قنوات إسرائيلية، وقيل أن هدفها اقناع جهات عربية بأن «تحسينات» أدخلت على نص «الخطّة» لتسهّل قبولها. مشكلة كوشنر وزمرته أنهم كانوا كشفوا نياتهم باكراً أمام محاوريهم من الجانب الفلسطيني، ثم تطابقت اطروحاتهم الأولية مع تلك النيات التي تحوّلت الى «مفاهيم» لا علاقة لها بالقانون الدولي ولا بأي وعي لوجود احتلال أو أي احترام لقضية شعب.
قبل أسبوع من مؤتمر وارسو راح ملف «الصفقة» ينافس ملف النظام الإيراني و»طموحاته القاتلة»، بحسب تعبير بومبيو. أُفيد بأن كوشنر سيعقد جلسة خاصة لشرح «الخطة» أمام المسؤولين المشاركين، ثم جرى التصحيح بأنه سيعرض فقط «الجانب الاقتصادي» منها، وأُتبِع بتصحيح آخر بأنه سيكتفي بالإجابة عن أسئلة توجّه إليه. واضح أنه كان هناك ارتباكٌ في التخطيط، فكيف يستوي لديه أن يروّج لـ «صفقة» يريد لها أن تبقى سرّية ومرشّحة دائماً للتعديل، أو أن يُطلع ممثلي الدول على ما يرفض الكشف عنه وقبل أن يعرضه على الأطراف المعنية خصوصاً الفلسطينيين. وحتى لو اقتصر على الخطة التنموية لقطاع غزّة فلا بدّ أن الأوروبيون سيسائلونه عن الضمانات السياسية، إذ أنهم شاركوا سابقاً في مؤتمرات لإعمار غزة ولم يحصل تقدّمٌ في التنفيذ بسبب التعنّت الإسرائيلي، كما أن لديهم تجربة طويلة في تمويل مشاريع حيوية في الأراضي الفلسطينية ولم تتردّد إسرائيل في تدميرها في أول فرصة سانحة. بعد المؤتمر، يتهيّأ كوشنر لجولة على دول عربية يرشحها لتمويل مشاريع خطّته وكأنه ضامنٌ سلفاً تأييدها لـ «الصفقة»، لكنه سيُسأل حتماً عن الجانب السياسي منها. يصعب أن يكون هناك تمويل عربي من دون وضوح بالنسبة الى السلام المنشود.
فوق ذلك، رغب كوشنر في حضور الفلسطينيين الى وارسو، وتلقّت السلطة دعوة بولندية فاعتذرت عن عدم تلبيتها، واستبقت أي مفاجأة مكرّرة أنها لن تحضر «مؤتمراً اميركياً» ولن يمثّلها أحد ولم تكلّف أحداً التحدّث باسمها. تواصل الإدارة الأميركية، كذلك كوشنر وزمرته، النظر الى القطيعة الفلسطينية باعتبارها غير مبرّرة، لكن هل يمكن توقّع شيء آخر من شعب برهنت له إدارة ترامب مراراً أنها في صدد إلغائه وتصفيته، بل تسعى الى تجويعه بعد استهدافها قطاعَيه الصحّي والتعليمي. وكيف للفلسطينيين أن يقبلوا بأي «خطة»/ «صفقة» قائمة على: 1) شطب القدس من تاريخهم وقضيّتهم. 2) الاعتراف بشرعية مستوطنات أقيمت على أراضيهم المسروقة. 3) اسقاط قضية اللاجئين وحقوقهم. 4) العبث بحدودهم وطمس هويتهم العربية – الفلسطينية وتخريب اقتصادهم. 5) إبقاء الضفة والقطاع، كذلك الشعب الفلسطيني، من دون تواصل جغرافي. 6) عدم الاعتراف الأميركي بدولة فلسطينية. 7) الاحتيال على المبادرة العربية للسلام وتحريف أهدافها. 8) الاحتيال على القوانين الدولية لـ»شرعنة» الاحتلال الدائم…
لا يمكن لهذه المفاهيم الملتوية أن تدّعي صنع سلام، فضلاً عن كونها تفترض خطأً أن العرب وافقوا على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل طالما أنهم لم يتداعوا لمحاربته، وأنهم سيوافقون على «صفقة القرن» مهما كانت مجحفة طالما أن اميركا مصرّة على فرضها. ففي مؤتمر وارسو تربط واشنطن بين مواجهة ايران وطرح «الصفقة» وكأن هذا هو «التوازن» الذي يمكن العرب توقّعه من إدارة ترامب على ما فيه من منحى ابتزازي مكشوف. كانت مصادر أميركية ومراجع عربية عديدة أشارت مراراً الى ضرورة تصحيح ما أحدثه انحياز قرار القدس من اختلال في توازن السياسة الأميركية حيال العرب والفلسطينيين، غير أن واشنطن واسرائيل ردّتا على ذلك بأسوأ المواقف وبالعمل على قطع المساعدات والموارد عن الفلسطينيين. ثم جاءت التسريبات عن «تحسينات» لشروط «الصفقة» وتضمّنت «إقامة دولة فلسطينية على نحو 90 في المئة من الضفة وعاصمتها القدس الشرقية» من دون أن تشمل الأماكن المقدسة وقطاع غزّة. هذا يعني أن ادارة ترامب تعرض «الدولة الفلسطينية» لمقايضة ولا تتبنّاها أساساً للسلام، وبالتالي فإن الاطروحة الكوشنرية باقية على سيئاتها ولا تزال بعيدة عن أي توازن.
كان بومبيو أورد في خطابه في القاهرة أفكاراً اعتبر أنها تختصر قيم بلاده. أولها أن «اميركا هي قوّة للخير في الشرق الأوسط» ويصعب القول أن شعوب المنطقة توافقه في ما ذهب اليه، لأن اميركا تمارس التمييز ضد الفلسطينيين وتستثنيهم من هذا «الخير» الذي تغدقه كلّه على اسرائيل. وثانيها أن «اميركا قوّة محرّرة وليست قوة احتلال» لكن دفاعها المستميت عن الاحتلال الإسرائيلي وعدم اعترافها به كـ «احتلال» لا يناقضان مبدأ التحرير أو التحرّر فحسب بل يجعلان من اميركا بدورها «دولة احتلال». وثالثها أن «اميركا حيثما تتراجع فغالباً ما تتقدّم الفوضى» وهذا على رغم التباسه صحيح، وأسوأ النماذج تقدّمها إيران وإسرائيل: الأولى استغلّت التراجع لتعميم الخراب في المنطقة، والثانية وظّفت التراجع لتقويض كل مقوّمات «سلام حقيقي» مع الفلسطينيين والعرب. ورابعها أخيراً أن «اميركا لم تبنِ امبراطورية ولم تضطهد أحداً»، لكن تلميحه الى «امبراطورية» تتوهم ايران أنها بنتها وتضطهد فيها الايرانيين وسواهم لا ينفي أن اميركا تدير العالم عقلية امبراطورية، كما لا ينفي أنها توفّر لإسرائيل حصانة في اضطهادها للشعب الفلسطيني.