جلسة الساعات الثلاث بين الزعيم الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الاميركي جون كيري في موسكو أول من أمس، قد تكون إشارة الى انعطافة كبيرة في شأن النكبة السورية والأزمة الأوكرانية.
الجلسة في ذاتها مهمة بقدر أهمية ما طُرح فيها، لأنها تدل في العموميات على نجاح التكتيك الذي اعتمده بوتين عندما قرر الانخراط في سوريا في حين أن عينيه كانتا مركزتين فعلياً على العقوبات التي جاءت بعد ضم القرم وعلى أوكرانيا وإفرازات الحرب فيها، وهي الأكثر قرباً له في الجغرافيا، والأكثر تأثيراً عليه في المصالح والسياسات.
قد تكون فلتة لسان، إشارة كيري قبل تلك الجلسة، إلى أن أوكرانيا ستكون واحدة من موضوعين فيها (الآخر سوريا)، لأنه بعد اللقاء حصر كل كلامه في الموضوع السوري والتحضيرات الجارية لاجتماع نيويورك المتمم لمؤتمر فيينا.. لكن فلتة اللسان هذه تعني أن باب المقايضة مفتوح وليس مقفلاً، وأن إدارة أوباما سايرت التكتيك الروسي ولم تلجمه. بحيث يمكن الاستنتاج سريعاً، بأن الليونة الاستثنائية التي عبر عنها سيرغي لافروف في شأن حضور اجتماع نيويورك كانت ثمناً لليونة أميركية مقابلة في شأن موضوع العقوبات والأزمة الأوكرانية.
وبانتظار ما سيتكشف في آتي الأيام في هذا المضمار، فإن اجتماع موسكو يدلق ماءً بارداً على الرؤوس الحامية لجماعة الممانعة في نواحينا. والتي راحت في الغلو إلى حد افتراض اشياء خلاصية كثيرة في الدور الروسي، وتغاضت عن الواقع المرير القائل بأن موسكو نفسها لا تدّعيها! وبأن مصالح الدول الكبرى أكبر وأخطر من إلصاقها بمصائر أفراد أو أنظمة أياً تكن.. وأن هذا البوتين تحديداً صاحب مشروع إحيائي لبلاده، ومن أجله مستعد لأن يبيع عشرة من أمثال الأسد وليس العكس.
جماعة الممانعة في نواحينا، أصرت وتصرّ على تجاهل «العامل الإسرائيلي» في سياسات بوتين وقراراته! وأصرّت وتصرّ على تجاهل وقائع الانخراط الروسي الميداني في سوريا، والتي تقول إن ضجيج ذلك الانخراط أكبر من واقعه الفعلي، وإن أهدافه أكبر من حسابات الأسد ورهط المؤيدين له في المدار المحيط. بل هي أكبر من حسابات طهران نفسها. والتي لا ينكر أحد، أنها قدمت الكثير من الإشارات على عدم رضاها على مجريات النزال الدائر. ولا على خطف موسكو معظم القرار التنفيذي على الارض وفي السماء، وفي الميدان كما في التجارة السياسية الدائرة رحاها انطلاقاً من السوق السورية المفتوحة!
ركّبت تلك الأبواق الصوتية المهتاجة أبداً، سيناريوات حربية كبيرة انطلاقاً من الدور الروسي، قبل أن يخيب منطقها. وقبل أن يتبين لها ولغيرها، أن خسائرها تضاعفت بدلاً من أن تتقلص. وأن الخريطة لا تحتمل رسماً أحادياً من طرف واحد لخطوطها العريضة.. ثم ركّبت سيناريوات هامشية تحمل خلاصات قسرية عدة، منها أن موسكو بعد إسقاط طائرة «السوخوي» «ستقفل» الأجواء أمام أي طيران حربي آخر! وأنها بعد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية لن تحضر اجتماع نيويورك! وأنها في العموم، سائرة نحو زلزلة الكرة الأرضية من أجل بشار الأسد.. وطموحات «الولي الفقيه» في إيران!
اجتماع الساعات الثلاث في موسكو قدّم الإشارة الفعلية الأبرز، على أن موسكو جاءت إلى سوريا من أجل موسكو وليس من أجل دمشق والأسد! ومن أجل ربط نزاع مع واشنطن والأوروبيين وليس من أجل فتح معركة كبرى معهم. ومن أجل تحضير أوراق المقايضة في شأن العقوبات المؤذية التي فُرضت عليها، وليس من أجل استثارة المزيد منها.. وعند أول إشارة إيجابية من الطرف الآخر، الأميركي أساساً، لم تتردد في إنزال سقوف مواقفها العالية!
لا يعني ذلك، أن الدنيا ستتغير أحوالها غداً أو بعده.. لكنه يعني حُكماً أن باب المقايضات فُتح بشكل أو بآخر، وبأن ثلاثة معنيين يفترض أن يشعروا بقلق أكبر من المعتاد من الآن فصاعداً: بشار الأسد و»الولي الفقيه».. والرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو!