وجدت حكومات دول عربية عدة توجه زعماؤها الى باريس للتضامن مع الحكومة الفرنسية في التظاهرة التاريخية التي اجتاحت ساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية في وجه الارهاب الذي ضرب فرنسا عبر اعتداء ارهابي على محرري صحيفة شارلي ايبدو، نفسَها في حال احراج بعدما اعادت الصحيفة نشر كاريكاتور في عددها الجديد الذي وزعته بالملايين، في تعبير عن عدم خضوعها كما حرية التعبير في فرنسا للترهيب. فمجمل زعماء هذه الحكومات اضطروا الى اصدار مواقف مدينة للرسوم الكاريكاتورية الجديدة التي تضعهم في موقف صعب من حيث المبدأ، لكن جلها لم يذهب بعيداً من الاستنكار لادراكهم حساسية الموقف داخل بلدانهم من جهة وفي علاقاتهم من جهة اخرى مع الحكومة الفرنسية التي لا تستطيع غداة العمل الارهابي ضد الصحيفة الساخرة الا أن تدعم مواطنيها وشعاراتها التي تتمسك بحرية التعبير، ولو ان كثرا يرون انه، في مكان ما، فان الفعل ورد الفعل المضاد قد يؤديان الى سلسلة لا تنتهي بسهولة من الفعل العنفي، على ما شهدت وتشهد بعض العواصم الاوروبية في حوادث متفرقة منذ ايام. لكن التضامن الدولي مع فرنسا بقوة بدا مهما في وجه الارهاب فيما تسببت اعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية بتهديد هذا التضامن وان لم يكن ذلك يطاول الجوهر ويقتصر على الشكل باعتبار ان كل الدول تقف ضد الارهاب وتنوي العمل من اجل منع انتصاره.
وقد شكّل الموقف الذي اعلنه البابا فرنسيس في تمييزه بين حرية التعبير واهانة معتقدات الآخرين سقفا لا يمكن الدول الاسلامية القبول بأقل منه، خصوصاً انه يأتي من رأس الكنيسة الكاثوليكية ولو ان فرنسا بلد علماني ولها قوانينها ولا تخضع للكنيسة الكاثوليكية. والموقف الفاتيكاني حفّز دولا عربية عدة، كما تقول مصادر معنية، على ان تصدر ادانات لاعادة شارلي ايبدو نشر الرسوم الكاريكاتورية التي اثارت اشكاليات في السابق تحت سقف مواقف البابا فرنسيس، ولو من دون ان تعلن هذه الدول ذلك ، الا ان موقفه وجد رد فعل ايجابيا في غالبية الاوساط الاسلامية على اساس انه القاعدة المبدئية التي يجب ان تحكم مهنة الاعلام في الدول الغربية حتى من غلاة المتمسكين بحرية التعبير. لكن يجب الاقرار ان نقاشا داخليا اطلقه الاعتداء الارهابي على شارلي ايبدو، وهو وجد سبيله الى الاحزاب والكتل النيابية والأوساط السياسية والاعلامية في لبنان من زاوية مبدئية تدين قطعا الفعل الارهابي الذي استهدف صحافيي شارلي ايبدو، خصوصاً ان لبنان ذاق الامرين من الارهاب، وقد روّع باساليب ارهابية مماثلة او حتى اكثر عنفا احيانا من اجل اسكات اقلامه الحرة مرارا وتكرارا في التاريخ الحديث. ثم ان التضامن مع فرنسا وشارلي ايبدو في التمسك بحرية التعبير هو جزء من التمسك بما تمثله فرنسا بالنسبة الى دول المنطقة والتطلع اليها نموذجا ولو بعيد المنال بالنسبة الى دول عدة على صعيد حرية التعبير في الدول العربية او في محاولة توسيع هامشها بالحد الادنى. لكن ذلك لا يمنع تضارب الآراء حول ما اذا كان يمكن القبول بهذه الحرية المطلقة في التعبير ام لا.
يبرر سياسيون مسلمون كثر حرية التعبير المطلقة في فرنسا والدول الاوروبية الاخرى التي تسمح بتجاوز الاديان على قاعدة ان فهم هذه المجتمعات غير المتديّنة يتيح فهم غياب الحدود او الضوابط التي تطالب بها مجتمعات اخرى وانه حين يتوجه مسلمون الى فرنسا او الدول الاوروبية للاندماج في مجتمعاتها انما يكون الطمع بحرياتها، ومن بينها حرية التعبير، جزءا من الصفقة الضمنية التي يجريها هؤلاء المهاجرون مع انفسهم. يضاف الى ذلك واقع ان الدين الاسلامي يمكن ان يترفع عن اي من يسيء اليه بالاستناد الى مضمون في الآيات القرآنية يحض على تجاوز ما يطاول الدين الاسلامي. في حين ان آخرين يظهرون اقل تسامحا من زاوية ان حرية التعبير المقدسة في فرنسا انما تعتبرها شوائب تطاول مثلا منع تناول الهولوكست او اليهود، وهناك ضوابط قانونية لذلك على نحو يفترض ان ينسحب بالمثل على كل الديانات الاخرى بما فيها الاسلام الذي بات الطائفة الثانية في فرنسا. ومن هذه الزاوية يبدو موقف البابا فرنسيس بابا محتملا للذهاب الى تشريعات دولية تمنع التعرض للديانات ويتم ايجاد آلية لترجمتها العملانية في كل دول العالم على قاعدة انه اجراء من الاجراءات التي يجب اعتمادها لمواجهة الارهاب في ظل الخشية المتعاظمة من ان تؤدي المخاوف من اتساع العمليات الارهابية وشمولها دولا اوروبية عدة الى توترات في داخل المجتمعات الاوروبية والى اجراءات لا تقل صلابة عن تلك التي اتخذتها واشنطن في ظل ما عُرف “الباتريوت اكت” ولو من دون اعلان صريح وواضح في هذا الاتجاه في ظل التبريرات الكثيرة التي تبيح مثل هذه الاجراءات. وما يطرح في هذا المجال من مراقبة تطبيقات الهاتف الخليوي كالواتساب وسواه يشكل جزءا لا يستهان به في عملية الرصد والتنصت التي سيتوسع مجالها كثيرا اضافة الى قواعد رقابية اخرى. وتقول مصادر متابعة ان تمديد البرلمان الفرنسي لعملية “شمال” التي تنخرط فيها فرنسا الى جانب التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الاسلامية في العراق غداة الاعتداء الارهابي على شارلي ايبدو جاء في السياق السياسي الذي لم يعد يسمح لفرنسا الا توجيه رسالة قوية عن استمرار انخراطها في مواجهة الارهاب ومبررا سياسيا داخليا قويا لها في هذا الاتجاه.