إنها مشاهد الأطفال وهم يحتضرون في حلب. الأمهات وهن فاردات شعورهن بعد نزع الحجاب عن رؤوسهن، ووجوههن تملأها الدماء من جرّاء الصواريخ والبراميل المتفجّرة والدمار المُزلزل. ويبحثن بين الغبار عن أطفالهن العالقين بين الركام، فتمتد يد إحداهن لتلتقط قطعة من طفل كان يئن من وجعه قبل أن يُسلم الروح. على هذا النحو كانت حلب بالأمس، أو هكذا كان المشهد المرسوم لها منذ أن تحوّلت مدينة العيون الخضراء إلى «قبلة» حرب لحلف «مُمانع» لا يحلو له العيش من دون أن يستلقي على بحور من الدماء. بهذه المشاهد الدموية المأسوية كان يستمتع بشّار الأسد، بفخر واعتزاز.
أمس، أبكت حلب كل من له قلب ينبض بالإنسانية، وسكنت في وجدان كل حر توّاق إلى نور الشمس والحريّة. مشاهد من داخل المدينة المنكوبة لم يعهدها العالم ولم تألفها العقول، فالجميع هناك تحوّلوا إلى أموات، حتّى الحجر كان يبكي البشر وينزف عنهم دماً بعدما رخصت الدماء ونشفت من الأجساد.
بالأمس تشابهت أجسادهم المُمددة في الأحياء وعند مداخل المستشفيات وداخلها واختلطت مع الأشلاء والأجساد المُمزّقة. لا لون لموتهم ولا أصوات تدل على أماكن أوجاعهم. الجميع يرحل بصمت بعد أن ينصاع لقرارات الموت التي يوزّعها بشّار الأسد وأحكام الإعدام التي ينفذها تحت أنظار «حزب الله». مدينة تحوّلت إلى حقل تجارب لكل من يريد أن يختبر درجة إجرامه وحدود الآلام وقدرة التحمّل لدى الأطفال والنساء والشيوخ. أمس وعلى مرأى ممن يدعي نُصرة الحسين، ذُبح طفل الحسين وذُرفت عليه دموعهم وكأنهم يستعيدون من التاريخ موقفاً يقولون فيه «قلوبنا معك وسيوفنا عليك».
بصمت ووجع تمسح حلب تاريخها وتحمل دموعها الممزوجة بالدماء وسط أفراح عارمة في أوساط «الممانعة« التي نفّذ أسيادها وعودهم ودخلوها على بحر من الدماء. مدينة تُذبح تحت أنظار العالم والمُجتمع الدولي، وحيدة تُصارع في عالم الوحوش وتستعطف ضمائر غابت عن السمع. من قلب هذا النزف الذي جاء نتيجة الصمود ومن الخوف الذي ترتكبه عصابات النظام وحلفائه، تبرز رسالة ممرضة خطتها قبل أن تنتحر خوفاً من تعرّضها للاغتصاب على يد الشبيحة بعد أن رأت بأم عينها كيف اغتصبوا زميلتين لها. «إلى شيوخ الأمة… إلى شرعيي الفصائل… إلى كل مَن ادعى يوماً أنه يحمل هموم الأمة العقائدية. أنا إحدى فتيات حلب التي سيتم اغتصابها بعد لحظات.. فلم يعد هنالك سلاح ولا رجال تحول بيننا وبين وحوش ما يُسمى جيش الوطن!
لا أريد منكم أي شيء.. حتى الدعاء لا أريده.. فما زلت قادرة على الكلام وأظن أن دعائي سيكون أصدق مما ستقولو ! كل ما أريده منكم ألا تأخذوا مكان الله وتفتوا في مصيري بعد موتي.. أنا سأنتحر.. ولا أكترث إن قلتم إنني في النار. سأنتحر لأنني لم أصمد كل تلك السنوات في بيت أبي الذي مات وفي قلبه حرقة على مَن ترك..
سأنتحر ليس لشيء بل كي لا يتلذذ بجسدي بضعة عناصر كانوا ومنذ أيام يخافون نطق اسم حلب.. سأنتحر لأن في حلب قامت القيامة ولا أعتقد أن هناك جحيماً أقسى من هذا«.
وتابعت: «سأنتحر وكلي علم أنكم ستتوحدون على فتوى دخولي النار.. الشيء الوحيد الذي سيوحدكم هو انتحار فتاة ليست بأمك لا بأختك ولا بزوجتك.. فتاة لا تهمك.
سأختم قولي بأن فتواكم لديّ أصبحت كهذه الحياة لا قيمة لها على الإطلاق فاحفظوها لأنفسكم ولأهليكم.. سأنتحر.. وعندما تقرأون هذا اعلموا أنني مت طاهرة رغماً عن الجميع«.
يبدو أن الوعود بالمُتغيّرات في حلب قد حان وقت قطافها. نعم هذه هي حلب الجديدة الموعودة، حلب الدماء والجثث الممزقة، حلب الموت والقهر والذل، حلب التغيير الديموغرافي الذي بدأ بإفراغها ممن تبقّى من أهلها على قيد الحياة.
يتبع رسالة الممرضة، مجازر متواصلة يرتكبها الطيران الروسي والسوري ينتج عنها انهيارات كاملة لمباني وأحياء ومستشفيات. أكثر من مئة وخمسين مدنياً لا يزالون تحت الأنقاض بحيث لم تتمكن أي جهة من سحبهم بسبب حجم القصف المتزايد. وسط هذا الهول من داخل مدينة الأشباح بحسب وصف أبناء حلب لمدينتهم، ثمة اعترافات لمواطنين يؤكدون أنهم في الكثير من الأحيان يتجاهلون أصوات الجرحى وأنين الأطفال التي تصدر من تحت الأنقاض، لا لشيء فقط لأسباب تتعلق بغياب القدرة على المساعدة الفردية خصوصاً أن الأحياء ذاتها تتعرّض لأكثر من عشر غارات كل نصف ساعة.
أبناء حلب سيمضون ما تبقّى لهم من أيّام صعبة، تحت وطأة الموت والخوف من كل شيء ومن أي شيء، لكنهم حتماً سيخرجون من محنتهم وسيُحاسبون ذات يوم، من قتلهم وشرّع موتهم ورفع عنهم صفة الإنسان. في حلب، سوف تستعيد الأمهات ابتساماتهن لحظة تمّكنهن من التعرّف على جثث أطفالهن واحتضانها للمرّة الأخيرة قبل قراءة «الفاتحة» عن روح الأيّام التي ظلّت فيها كل منهن وحيدة تُحارب الصقيع رافضة أن تتحوّل إلى مُجرّد رقم أو أشبه بلوح خشبي أزرق.