ترشيح وليد جنبلاط الخليفة العباسي هرون الرشيد لرئاسة الجمهورية اللبنانية، يذهب بالسياسة إلى حقل السوريالية الشعري والتشكيلي. وليس الأمر مستهجناً لأن البرلمان يعجز منذ 25 أيار (مايو) 2014 عن تأمين نصاب لانتخاب رئيس للجمهورية.
لبنان في منتهى اهتراء مؤسساته الدستورية، فالحكومة تعمل في الحد الأدنى وتنتظر توافق الجماعات السياسية المتناحرة لإقرار ما يتعلق بالمصالح اليومية ومسار الإدارة العامة غير المنتظم. ويعاني المواطنون من أزمات الحكم المتلاحقة، ليس لأسباب مهمة بل لتعارض المصالح بين السياسيين الذين يحوّلون الأمر إلى أزمة تطاول أحياناً العقائد والأحلاف الإقليمية أو الدولية.
لا رئيس للجمهورية، والحكومة شبه مشلولة بحيث تبدو أقل من حكومة تصريف أعمال، ووصل الأمر برئيسها تمام سلام إلى الاعتراف بوجود دويلات صغيرة تتصارع في الوطن الصغير حول أحجام الحصص الداخلية ومديات التأثير في السياسة الخارجية. ويستند السياسيون إلى كلام الدستور بأن عمل رئيس الجمهورية في حال شغور مركزه يؤديه مجلس الوزراء مجتمعاً. و «مجتمعاً» هنا يفسّرونها بالإجماع الذي يبدو نادراً فيتعطّل عمل الحكومة، ويصبح كل وزير حاكماً شبه مطلق لوزارته يديرها في معزل عن المصلحة العليا للدولة والمجتمع. هكذا يستفيق اللبنانيون على خلافات الوزراء الصغيرة، حول التعاقد الموقت مع موظفين محازبين سرعان ما تعلو صرختهم مطالبين بالتثبيت وأن يتحوّلوا دائمين وكاملي الحقوق. لا رأي لمجلس الخدمة المدنية، ولا مباريات لاختيار الأكثر جدارة، ولا اهتمام بالأعباء المالية للتعيين الاعتباطي في دولة بلغ دينها المئة بليون دولار.
والبرلمان ليس أفضل من الحكومة فهو في حال بيات شتوي، واستطاع السياسيون تجاوز الدستور القائل بانعقاد دائم للبرلمان حتى انتخاب رئيس للجمهورية، فعقدوا جلسات لإقرار قوانين تلبي مصالحهم أو تستدرك انهيارات في علاقة لبنان بالمؤسسات المالية الدولية. وبلغ انهيار البرلمان حد تغيُّب المرشحين الرئيسيين لرئاسة الجمهورية عن جلسة الانتخاب، في انتظار «انتخاب» تجريه القوى الإقليمية والدولية ويكون دور نواب لبنان التصديق على الاسم المحظوظ. إنه انتداب مركّب جديد يتطلّب توافق مراجع الدويلات اللبنانية على اسم رئيس لدولة لبنان.
لا أحد يتمنى أن يكون في موقع السياسيين اللبنانيين. هذا وطنهم الذي اعتُبِر منذ إنشاء إسرائيل نقطة الهدوء شبه الوحيدة في المشرق وحافظ أفكار النهضة، ليس بطبقته السياسية الغارقة في ملعب الطوائف، وإنما برجال أعماله ومثقّفيه الحداثيين الذين التحق بهم أشباههم من الفلسطينيين بعد 1948، ومن الشوام المتمصّرين بعد ثورة الضباط الأحرار- 1952، ومن السوريين «البيض» بعد مسلسل الانقلابات والتأميمات. وقد حصل هؤلاء على الجنسية اللبنانية فصار لبنان معهم وارث نهضة العرب ومجدّدها، بما أهّله ليكون منصة لقاء ثقافي واقتصادي بين الشرق والغرب.
كانت الطبقة السياسية تلهث خلف الجماعة الاقتصادية الثقافية الحداثية لتوسّع مداركها وتجمّل صورتها وتتجاوز عصبها القروي الغالب. الآن انعكست الصورة فأمسك السياسيون بالحراك الاقتصادي والثقافي أو دفعوه إلى الهامش، ولم يفلح عهد رفيق الحريري في مصالحة الطرفين فوصلت الأمور بعد استشهاده إلى اهترائهما معاً، وتحولت السياسة غالباً إلى منابر لتمثيل القوى الإقليمية كما تحوّل الاقتصاد إجمالاً إلى منهبة وفساد وإفساد.
لوليد جنبلاط أن يرشّح من يشاء إلى رئاسة لبنان، شخصيات من بطن التاريخ أو من ملعبه الراهن، كأن يرشح فلاديمير بوتين أو أبو بكر البغدادي، أو على الأرجح بشار الأسد ليعوّض مُلكاً مهدّماً بمُلك مأزوم هو لبنان.
لدى إنشاء دولة إسرائيل وضع كاتب الدستور اللبناني ميشال شيحا يده على قلبه. الآن بعدما فاقت أعداد اللاجئين السوريين مثيلاتها من الفلسطينيين، وهاجرت غالبية الحداثيين اللبنانيين إلى الخليج العربي وأوروبا وأميركا، لا أحد من السياسيين يضع يده على قلبه، ولن يشعروا بالقلق. يكفيهم أن لبنان ذا الدولة المهترئة يلبي حاجة المحاربين في المنطقة إلى منصة للمعلومات والمال غير النظيف والذمم المفتوحة على النهب المكتوم والنهب المفضوح.
يكفيهم أن لبنان أفضل من سورية والعراق، وذلك منتهى طموحهم.