يحمل فلاديمير بوتين ما يعتقد أنّه إنجازه السوري، أحدث تقنيات الإستراتيجية الروسية، عارضاً إياه في سوق الصفقات العالمي، كوجبة دسمة بمواصفات روسية فاخرة، ويبتغي من خلالها شراء تسوية أزماته مع العالم، رفع العقوبات الأميركية والأوروبية والتفاهم مع الخليج على ملف الطاقة، وربما تبييض صفحته لدى منظمات حقوق الإنسان.
وتحاول الديبلوماسية الروسية التقاط أي حادث أمني يحصل في أوروبا لوضعه في سياق جهودها واستخدامه دليلاً على صحة السياسات الروسية التي تتخذ الطابع الاستراتيجي في محاربة الإرهاب ولا تلجأ الى الألعاب الجيوسياسية الخائبة التي ينشغل الغرب بها لمكايدة روسيا.
وفي الواقع، ليس بوتين مخطئاً لناحية اعتبار أنه يملك منتجاً اسمه الإنجاز السوري، أو الوجبة السورية، فالرجل صنع واقعاً، عدا المكاسب الإستراتيجية التي حققها في غزوته السورية وتمثّلت في بناء مرتكزات للوجود الروسي على البحر المتوسط، فإنه استطاع تعديل ميزان القوى وتغيير اتجاهات رياح الصراع صوب المقلب الآخر، فعل ذلك برشاقة حسده عليها كبار مخططي الإستراتيجيات العسكرية، لكن الوجبة التي صنعها بوتين في سورية ويعرضها على الآخرين هي وجبة تناسب المزاج الروسي وكل من يتذوقها يجد صعوبة في ابتلاعها، ذلك انه ينقصها العنصر المهم، ملحها ربما، وهو مصير بشار الأسد، والذي من دونه لا بوتين سيستطيع تسويق وجبته ولا الآخرون يمكنهم استساغتها.
ويبدو أن بوتين يحرتق في اللعبة التفاوضية على العالم، يريد تدفيعه مرتين ثمن غزوته السورية، مرّة لأنه سوّى الأوضاع على هذه الشاكلة في سورية ودفع الأطراف للتفاوض وسحب جزء من عتاده الحربي، ويريد سداد كل مستحقات هذه الجزئية بأسرع وقت ممكن، والمرة الثانية عندما ينقل بشار الأسد إلى سوتشي او سمرقند، ولكن بوتين يرغب في الحصول على غالبية مستحقات هذه الجزئية قبل البدء بها.
ويطرح بوتين، وبهدف إيجاد مناخ من الثقة في العرض الذي يقدمه، مؤشرات عدة يحاول من خلالها إثبات أنه متعهد ملتزم وأنه بالفعل سينجز مهمته، إذ عدا عن كونه يملك الأرضية المناسبة لتأسيس مشروعه المقبل في سورية من خلال ما يمتلكه من قواعد عسكرية وشبكة استخبارات تعمل في شكل علني، فهو بات قاب قوسين أو أدنى من ترتيب أهم بنية في هيكلية نظام الأسد وهي الجيش الذي يوليه اهتماماً مميزاً ويدعمه بالتقنيات والتدريب، كما يعمل على بلورته وتظهيره كبنية دفاعية وحيدة بعد أن يصار إلى دمج أو تسريح القوى الرديفة له. حتى أن بوتين يطمح إلى جذب الكثير من فصائل المعارضة تحت جناح هذا الجيش.
ولا ينسى بوتين في طريقه صناعة بنية سياسية موازية للبنية العسكرية وقد تكفلت قاعدة حميميم طوال المرحلة الماضية بغربلة واختبار العديد من الوجوه والاتجاهات السياسية وتدريبها على العمل السياسي ولا أحد يعرف بدقة طبيعة وتقاصيل النشاطات التي تحصل في قاعدة حميميم.
لكن هل يستطيع بوتين بالفعل إنجاز البنى التي يستطيع من خلالها التحكم برأس الأسد أو على الأقل الاستغناء عنه وجعل النظام يعمل في شكل اوتوماتيكي ولا يتأثر بإزاحة رأسه؟ وهل يعتبر بوتين أن مطالبة الأطراف الأخرى في شكل علني بضرورة إزاحة الأسد فوراً تخريباً لمخططاته، وهل شرح نظريته مؤخراً للطرف الأميركي الذي تفهّم ضرورة تأجيل البحث في مصير الأسد؟
من المعلوم ان نظام الأسد كان يعمل وفق هندسة صمّمها الأب حافظ الأسد بعناية وصبر، حيث شكل منظومة تتمركز خيوطها بيد الرأس الذي يسيطر على كل مفاصلها من دون أن يكون فيها مراكز قوى مستقلة بقدر ما فيها مراكز وظيفية تنحصر قوتها في الأدوار التي تقوم بها وضمن قطاع محدد، من دون أن تكون لها القدرة على التنسيق بين بعضها من دون الرجوع الحتمي للرأس الذي شكل إدارة منفصلة في القصر الرئاسي من بطانته المقربة.
وهي المنظومة نفسها التي ورثها الأسد الإبن، ولم يحصل في تاريخ هذا النظام أن واجه محاولات للخروج عن السيطرة إلا باستثناءات محددة جداً لم تصل إلى حد التمرد العلني، مثل حالة وزير الداخلية السابق غازي كنعان، وكذلك رئيس الأركان آصف شوكت الذي يقال أنه فتح قناة اتصال مع الأميركيين وكانت في بدايتها لحظة قتله.
تنطوي الوجبة السورية في حال إتمام مواصفاتها على إغراء مهم لبوتين في المرحلة المقبلة، وهي بمثابة بوليصة تأمين لتسوية الكثير من الملفات العالقة مع المجتمع الدولي، وبخاصة أن بوتين الآن في وضع مالي معقد لم يخطر بباله أنه سيصل إليه بعد سنوات من الإزدهار والبحبوحة وتراكم الثروة جراء ارتفاع أسعار الطاقة، ولا يخفي بوتين بحثه عن مخارج لهذا الوضع، لكنه يسوّق بضاعته في سوق راكدة وزبائنها أكثر احترافية وأقل إنبهاراً وتسرعاً، والواضح أنهم يتفحصون وجبته لكنهم يشيرون إلى الملح الناقص منها، فمتى يرش بوتين ملحه؟