من فوق كَوْمَة مِن الأنقاض، في أرض خَرِبة، تتصاعد منها رائحة الدماء والتدمير… ومن على تلّة متهدّمة، يطلّ بشار الأسد… ذلك الرجل الذي كان يمكن في 30 آذار عام 2011 أن يغيّر مسار التاريخ… كان من الممكن أن يحفظ هذا الرجل، رئيس النظام السوري بكلمة منه حياة نصف مليون سوري على الأقل ليظلوا بين أهلهم وأحبائهم، لا ضحايا أو معتقلين مجهولي المصير. وكان لـ13 مليون سوري، أن يظلوا في بيوتهم، لا نازحين في المخيّمات والمنافي.
إنّ سيادة البلاد ووحدتها، كان من الممكن أن تبقى بيده كلياً، لا ينازعه عليها أخ ولا ابن خالة ولا رئيس جهاز أمني أو دولة غريبة، وأن تبقى بلاده سوريا – فاعلاً إقليمياً مؤثراً، كما كانت في عهد والده المرحوم حافظ الأسد، لا أن تصبح كما هي عليه اليوم بعد الثورة عليه وعلى نظامه بلا سيادة ولا كلمة ولا هيبة ولا اقتصاد حتى ولا بنى تحتية وبلا شعب.
وبالغوص في ماضي بشار ونشأته وطفولته، عبر اللجوء الى علم النفس ونظرياته، سعياً لاستقراء شخصيته ومخاوفه ورغباته وطريقة إدراكه ومعالجته للأمور، في محاولة لصياغة «سيرة نفسية» لبشار الأسد، ما سيعطينا أبعاداً جديدة لفهم الأحداث السياسية والتاريخية من وجهة نظره من منظور الأبعاد النفسية والدوافع العميقة الكامنة وراء القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ما قادني الى هذه المقدّمة، التصريح أو القرار الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد منذ يومين ويتضمن عفواً عاماً عن جميع مرتكبي الجرائم في الحرب السورية الأخيرة… هذا القرار قد يوحي للبعض بفرصة لأنه يبشّر بعودة 12 مليون نازح سوري من الخارج الى وطنهم لينعموا «بالأمان والأمن» الذي بشّرهم به بشار الأسد…
وهنا يتوجب السؤال: هل هناك ثقة بنيّة بشار وبصدقه؟
التاريخ يفيد: كلا… لا يمكن الثقة به أو تصديقه. كما ان إصدار مثل هذا العفو ليس في محله… لأنّ علاقات بشار بالدول المجاورة والتي نزح إليها السوريون ليست علاقات جيدة، لا مع تركيا ولا مع العراق ولا مع لبنان.. كما ان خطوة العفو هذه يجب ان تكون لها مقدمات وتمهيد، ولأنّ لا ثقة لأحد ببشار، لذا لم تصدر أي ردود فعل، فالثقة معدومة للأسباب التالية:
أولاً: دعوني أذكّركم بما نشرته صحيفة «الغارديان»، بأنّ مسرحيات العفو التي أصدرها رأس النظام بشار الأسد، خلال السنوات الماضية، لم تشمل إلا أعداداً محدودة للغاية من المعتقلين..
أضافت الصحيفة: إنّ قرارات العفو، التي تمّ الترويج لها على انها أعمال خيرية من قِبَل بشار الأسد ومسؤوليه، بالكاد أثرت في الأعداد الضخمة التي لا تزال محتجزة في السجون سيّئة السمعة رغم انتهاء الأحكام الصادرة بحق العديد منهم. وَخَلص التقرير الذي استغرق إعداده قرابة العام، الى ان حكومة بشار أصدرت أكثر من 21 عفواً، عن 7531 شخصاً تعرّضوا للاعتقال التعسفي، بينما لا يزال 136 ألفاً محتجزين قسرياً، والعديد منهم محرومون من الاتصال بأسرهم أو محامين.
وختمت الصحيفة اعتماداً على تصريحات بعض السجناء المحظوظين القلائل الذين تمّ إطلاق سراحهم: كنا نعلم أنّ النظام كاذب 90٪… وإنّ غالبية من أطلق سراحهم كانوا يتعاملون في السابق مع النظام وارتكبوا جرائم حرب مروّعة.
ثانياً: تاريخ بشار لا يوحي بالصدق. ولنبدأ بحادثة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهنا أُذكّر بما جرى مع المرحوم الملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين يومذاك… فقد سارع المرحوم الملك عبدالله، بعد عملية الاغتيال الى استدعاء بشار، وبعد أخذ وردّ، جرى الاجتماع بينهما في مطار الرياض ولم يستمر لأكثر من ساعة.
يومذاك، كما روى له شاهد عيان كان موجوداً- رفع المرحوم الملك عبدالله أصبعه وقرّبها من عين بشار، وسأله: هل أنت الذي قتلت الرئيس الحريري يا بشار؟..
فأجاب بشار بالنفي…
لم يصدّق المرحوم الملك عبدالله الرئيس بشار الأسد، واستمرت القطيعة بينهما..
وجرت محاولات عدّة لثني جلالة المرحوم الملك عبدالله عن رأيه… وكانت كل هذه المحاولات تبوء بالفشل… وبعد عام نجحت محاولة أحد الأصدقاء بإقناع المرحوم الملك عبدالله باستقبال بشار… رغبة منه في جذبه من «المد الايراني» المتعاظم، لكنه عند استقباله هذه المرة أيضاً، أعاد عليه السؤال مرتين قائلاً: هل قتلت الرئيس الحريري؟.. فأجاب بالنفي… قال الملك: «إذا لم تكن أنت قاتله… فعلى الأقل أنت تعرف القاتل».
[يتبع في الحلقة المقبلة]