في إحدى وسائل الإعلام الروسي الإلكترونية طُرح السؤال التالي في استطلاع موجه إلى القراء:
هل تخشى واشنطن أن تكشف «العملية الروسية» عن وجود علاقات لها بالإرهابيين في سوريّة؟!
وأشارت النتائج إلى أن أكثر من٩٠ في المئة من المصوتين في الاستطلاع يرون أن الأميركيين خائفون بالفعل من أن تتكشف علاقتهم بالمقاتلين الخارجين على القانون في سورية!
نسبة المؤمنين بوجود هذه العلاقة، مقارنة بنسبة غير المؤمنين بوجودها، كبيرة جداً، وهذا مرده بالطبع – مع افتراض النزاهة في وسيلة الإعلام هذه – إلى أن الغالبية العظمى من القرّاء هم من المائلين إلى السياسة الخارجية الروسية والمتحمسين لها، وإلا ما جاؤوا في الأصل للبحث عن الأخبار في وسيلة إعلام روسية! هم مع روسيا ضد أميركا قبل الاستطلاع وخلاله وبعده.
لكن سؤال الاستطلاع يثير عندي، أنا الذي لا أميل إلى هذه أو تلك وإنما أبحث عن الأخبار بصبغاتها كافة، مسألتين رئيستين: الخشية أو الخوف الأميركي، وطبيعة الإرهاب الذي تعنيه وسيلة الإعلام الروسية في وصفها الجماعات المقاتلة في سورية بالإرهابيين.
وسأبدأ بالمسألة الثانية المتعلقة بآلية فرز الجماعات المتقاتلة في سورية إلى جماعات إرهابية وجماعات غير إرهابية.
روسيا، التي نشرت قواتها خارج الحدود لحماية نظام سقطت شرعيته في معظم عواصم العالم، ترى أن كل من يقاتل أو يعارض «تنظيم بشار الأسد» في حدود الدولة السورية هو تجمع إرهابي خارج على القانون الممثل بحكومة دمشق الحالية. تنظيم «داعش» إرهابي، بحسب الرؤية الروسية. وتنظيم «جبهة النصرة» إرهابي. وفصائل «الجيش الحر» المسلحة بتفريعاتها كافة هي جماعات إرهابية! والمواطنون السوريون الذين كانوا يخرجون بالملايين في شوارع حمص وحماة وحلب ومدن سورية أخرى للمطالبة بالتغيير السلمي للنظام الديكتاتوري البعثي هم كذلك إرهابيون خارجون على أخلاق ومبادئ وقيم النخبة الحاكمة! كل الجماعات في سورية، ما خلا «تنظيم بشار الأسد»، هي جماعات إرهابية كما تعتقد روسيا وتقر، وعلى المجتمع الدولي بقيادة القيصر الجديد فلاديمير بوتين التعاون والتكاتف حتى يتم القضاء عليها.
روسيا والدائرون في فلكها مؤمنون بهذا الفرز ويعملون بناء عليه، لكن العالم له رأي آخر، فكثير من الدول يرى أن «تنظيم بشار الأسد» يقف على رأس التنظيمات الإرهابية في سورية. هو الأول في القتل والتعذيب وانتهاك المبادئ الإنسانية التي أقرتها المواثيق الدولية كافة. هو الأول، ثم تنتظم بعده الجماعات الإرهابية الأخرى في صف طويل من الخراب والدماء. وحده المواطن السوري الحر خارج القائمة.
إذاً، ومن منطلق أن الرؤية الرسمية الروسية منعكسة بالضرورة على وسائل الإعلام الروسية، فإن المقصود بالإرهاب في الاستطلاع هو كل جهد موجه لقتال أو معارضة «تنظيم بشار الأسد» في الظروف الحالية.
أما مسألة الخشية الأميركية فإنها تتفرع إلى أكثر من سؤال. ممن تخشى أميركا؟ وكيف كانت هذه العلاقة مع الجماعات الإرهابية؟ وما هو رد الفعل المتوقع من أميركا ومن المجتمع الدولي في حال اكتشف هذه العلاقة؟
وهل تخشى أميركا من روسيا، أم تخشى من المجتمع الدولي؟
العالم كله يعرف أن أميركا تدعم بعض فصائل «الجيش الحر»، المصنف إرهابياً بحسب الموقف الروسي الرسمي، وبالتالي فإن الخشية الواردة في الاستطلاع ليست موجهة بالتأكيد إلى هذا النوع من التعامل، وإنما المقصود بها العلاقات مع التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تتفق أميركا وروسيا في العلن على تجريمها، مثل تنظيم «داعش» وتنظيم «جبهة النصرة».
المتعاطفون مع روسيا في قضية «تنظيم بشار الأسد» يؤمنون بأن أميركا تتعامل في السر مع التنظيمات الإرهابية في سورية، وإن كشف هذا النوع من العلاقة فسيضرب مصالح أميركا في المنطقة، كون الدول العربية المعنية بالقضية السورية، التي مع أو ضد بشار الأسد، ترى أن خطر «داعش» أكبر بكثير من خطر وجود بشار الأسد. كما أنه سيضرب صدقيتها العالمية التي تقوم على محاربة الظلم وإقامة العدل في المناطق المنكوبة في العالم.
هؤلاء المصوتون على الاستطلاع يؤمنون بأن أميركا تخشى كشف العلاقة، وما هذا الإيمان إلا مسألة لاحقة بالضرورة بإيمانهم بتعامل أميركا مع التنظيمات. وهذا الإيمان الأخير قائم على افتراضين رئيسين، في تقديري: الأول أن أميركا تفعل ذلك من أجل إسقاط بشار الأسد، والثاني من أجل إطالة أمد الحرب لتحقيق المصالح الأميركية الكبرى.
الافتراض الأول قد يكون هو المحرك الرئيس لاستطلاع الموقع الروسي، كون معظم المصوتين، بحكم المكان، هم مع تنظيم بشار الأسد، لكنني لا أميل إليه (تحت ظروف الاستطلاع فقط)، لأنني أعرف أن أميركا تدرك الكارثة التي يمكن أن تشمل دول المنطقة في حال السقوط المفاجئ لنظام بشار.
أما الافتراض الثاني فإنني أميل إليه (مرة أخرى… تحت ظروف الاستطلاع)، لأنني مؤمن تمام الإيمان بأن أميركا يهمها بقاء بعض الصراعات العالمية مشتعلة، لسببين رئيسين: الأول ضمان إدارة هذه الصراعات بعيداً من الحدود الأميركية، فالإدارة الجيدة للصراع البعيد تضمن بقاءه بعيداً. والثاني ضمان دورة مصانع السلاح في أميركا بوتيرة متصاعدة، ما ينعكس على الحياة الاقتصادية هناك.
كل ما سبق تحت ظروف الاستطلاع، أما خارج ظروف الاستطلاع فإن روسيا وأميركا يهمهما معاً الوجود المتعادل خارج حدود الدولتين. تعرفان مصالحهما جيداً، وربما تتفقان عليها في السر، وهذا هو الأمر الذي تخشى الدولتان اكتشافه والكشف عنه!
الأيام المقبلة حبلى بمفاجآت الدولتين الكبيرتين في مستقبل الرجل البعثي الذي أصبح نظامه «تنظيماً»!