IMLebanon

أربعون بشير و”الحزب”

 

حدثان تزامَنا هذا العام: الذكرى الـ40 لانتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية واغتياله، والذكرى الـ40 لتأسيس «حزب الله» وانطلاقته، وهذا التزامن كافٍ للدلالة على مشروعين متناقضين في الشكل والأساس.

 

لم يبدأ النزاع في لبنان مع نشوء «حزب الله»، والحرب اندلعت قبل 7 سنوات على انطلاقته، كما انّ الخلاف بدأ منذ إعلان «لبنان الكبير» الذي صادف، أمس، الذكرى الـ102 على هذا الإعلان، وقد وصل هذا الخلاف إلى اندلاع حرب صغرى في العام 1958 وحرب كبرى في العام 1975، ولكن هذا الخلاف بين من يُبدّي نهائية لبنان ومن يُبدّي عروبته على حساب لبنانيته تمكّن من الوصول إلى 4 تفاهمات دستورية- ميثاقية:

 

التفاهم الأول في العام 1943 الذي أفسح في المجال أمام انطلاق تجربة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط بتعدديتها وديموقراطيتها وشراكتها في السلطة وحيويتها وطليعيتها في كل المجالات والقطاعات التعليمية والطبية والمصرفية والسياحية وغيرها الكثير طبعاً، وجعلت من لبنان «مضرب مثل» في العالم ودولة تُحتذى بحداثتها وتطورها وازدهارها واستقرارها.

 

التفاهم الثاني في العام 1958 الذي نجح بتطويق الحرب التي اندلعت في هذا العام والحدّ من توسّعها العسكري وتشظّيها السياسي، الأمر الذي أتاح تجديد ميثاق الجمهورية.

 

التفاهم الثالث في العام 1989 الذي كان يُفترض ان يُنهي الحرب اللبنانية لولا إسقاطه من قبل النظام السوري واستمراره ورَقياً ودفترياً، ولكن العبرة من ذلك تكمن في التوصُّل إلى اتفاق يضع حداً للحرب على قاعدتي التوفيق بين نهائية الكيان سيادياً وعروبته لغويا وانتسابه إلى الجامعة العربية، والشراكة على مستوى السلطة.

التفاهم الرابع في العام 2005 الذي أعاد توحيد اللبنانيين من خلال انتفاضة الاستقلال التي أكدت على شعاري «لبنان أولاً» و«الدولة أولاً»، أي العودة إلى مضامين اتفاق الطائف الذي لم يطبّق، ولكن الانقلاب على الانتفاضة والاتفاق تجدّد مع مكوِّن آخر من محور الممانعة وهو «حزب الله».

 

والغاية من هذه السردية الدلالة على قدرة المكونات اللبنانية على اجتراح التسويات، ولو قدِّر للرئيس بشير الجميّل ان يحكم لكان بدوره أنهى الحرب وأرسى تسوية سياسية أعادت الاعتبار للميثاقية اللبنانية، وفترة الـ21 يوماً التي أمضاها رئيساً منتخباً أحيت الآمال بقيام الدولة الفعلية، وهذه الفترة يمكن وبكل ثقة، وعلى رغم مدتها القصيرة زمنياً وعدم اكتمال فصولها، تصنيفها في سياق التفاهمات السابقة نفسها، أي قدرة اللبنانيين على إنتاج 5 تفاهمات وليس 4 فقط.

 

والسبب الأساس وراء القدرة على إنتاج التسويات، على رغم الخلاف حول دور لبنان وتطور هذا الخلاف إلى حروب، وجود إرادة جدية لإنهاء النزاعات، ولا نتكلم هنا عن استثناءات، إنما القاعدة كانت في الوصول إلى تسويات، وهذه التسويات، وهنا الأهم، كان مرتكزها دوماً الدولة، الأمر الذي استحال تحقيقه مع «حزب الله» منذ العام 2005 إلى اليوم، أي منذ أكثر من 17 سنة، وبما يتجاوز طبعاً مدة الحرب الأهلية.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ما كان ممكناً بين المسيحيين والدروز إبّان القائمقاميتين والمتصرفية، وبين المسيحيين والسنة في زمني الجمهورية الأولى والثانية، ما زال متعذراً، ومن أجل مزيد من الدقة، مستحيلاً مع الشيعية السياسية؟

 

والسبب مردّه إلى غياب الجسم المنظّم والعقائدي لدى البيئات المسيحية والسنية والدرزية والموجّه ضد الفكرة اللبنانية بشقّيها الميثاق اللبناني ونمط عيش اللبنانيين، فيما «حزب الله» يشكل نقيضاً للفكرة اللبنانية وخطراً عليها لثلاثة اعتبارات أساسية:

 

الاعتبار الأول يتعلّق بعقيدته الدينية والتي عَرّف عن نفسه فيها صراحة في وثيقته الأولى والتي جاء فيها حرفياً «إننا أبناء أمة «حزب الله» في لبنان نعتبر أنفسنا جزءاً من أمة الإسلام في العالم التي أنعم الله عليها لتكون خير أمة أُخرجت للناس، والتي نصر الله طليعتها في ايران وأسّست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم. نحن في لبنان لسنا حزباً تنظيمياً مُغلقاً، ولسنا إطارا سياسيا ضيقا، بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين في كل انحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام».

 

وهذا يدلّ بوضوح الى انّ منطلقاته الفكرية والعقائدية تتناقض جذرياً مع كل الفكرة اللبنانية.

 

الاعتبار الثاني يرتبط بسلاحه، والسيد حسن نصرالله كان شديد الوضوح في إطلالته الأخيرة في الذكرى الأربعين لانطلاقة حزبه، حيث قال: «نحن ذاهبون في اتّجاه تطوير البنية والمقدرات العسكريّة لمواكبة التّطورات على مستوى الأسلحة والتكنولوجيا، لأن من مسؤوليّاتنا في المرحلة المقبلة تثبيت معادلات الرّدع لحماية لبنان أرضاً وشعباً وثروات»، وبمعزل عمّن طلبَ منه ذلك وهو ليس مفوّضاً ولا مكلفاً من الشعب اللبناني، إلا ان هذا دليل يُضاف إلى آلاف الأدلة التي تؤكِّد بأنه ليس في وارد تسليم سلاحه، ويستحيل الوصول إلى تفاهم وتسوية في ظل سلاح خارج الدولة.

 

الاعتبار الثالث يتّصل بدوره الذي يتجاوز الحدود اللبنانية، وقال نصرالله في الموقف نفسه: «إذا تعرضت سوريا لمواجهة جديدة لن نتردّد في المشاركة في ميدان المواجهة، وإذا تعرض العراق مجدداً لمخاطر وطلب منّا أن نكون فلن نتردد، وننظر إلى إيران دوماً على أنها القوة الإقليمية الكبرى التي يستند إليها كل المظلومين والمستضعفين في المنطقة، وساهمنا بتشكّل محور المقاومة في المنطقة ونحن جزء من هذا المحور ونراهن عليه في مواجهة الاحتلال ومشاريع التسلط».

 

وما تقدّم يُؤشِّر للمرة الألف أيضاً انه لا يخفي دوره الإقليمي ومشاركته في كل حروب المنطقة وربما العالم سعياً إلى نشر عقيدته الخمينية، فيما كيف يمكن قيام دولة وإرساء استقرار مع قوة عسكرية تتصرّف بمعزل عن الدولة وتسمح لنفسها بالتسلُّح وإعلان الحرب من جهة، وبالتدخل في الدول الأخرى عسكريا وأمنيا من جهة أخرى؟

 

وسلاح «حزب الله» ودوره يرتبطان مباشرة بعقيدته الدينية، وتَخلّيه عنهما يعني كَمَن يتخلى عن عقيدته، الأمر غير الوارد بتاتاً في قاموسه وحساباتاه وممارسته، حيث ان السلاح هو الأداة لنشر عقيدته الإسلامية، ودوره لا تحدّه حدود كينات ودول، بل «أمة ترتبط مع المسلمين في كل انحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام».

 

وكل ما تقدّم يفسِّر استحالة الوصول إلى تسوية مع هذا الفريق السياسي على غرار التسويات التي أُبرمت منذ إعلان «لبنان الكبير»، كما انّ ما تقدّم يؤشِّر إلى الخلاف الجذري والعميق مع مشروع المقاومة اللبنانية التي تستذكر هذا العام انتخاب قائدها بشير الجميّل واستشهاده في ذكراه الـ40، هذا المشروع الذي يرتكز على الأسس التالية:

 

أولاً، التمسُّك بنهائية الكيان اللبناني، وحياده عن محاور الصراعات، وميثاقه الوطني الذي أكد على تعددية المجتمع اللبناني، ومدنية الدولة اللبنانية التي تشكل وحدها المرجعية في السياسات الداخلية والدفاعية والخارجية، واقتصاده الحر والحرية بكل أبعادها، وعلاقات لبنان العربية والغربية.

 

ثانياً، الدولة القوية لا تكون بانقسام شعبها والسلاح خارجها وربطها بمحور خارجي، إنما قوتها تكون مستمدة من وحدة شعبها أولاً وأخيراً، فمعظم الامبراطوريات في العالم انهارت بعدما انقسمت من داخلها، وبالتالي مصدر القوة هو وحدة الشعب تحت سقف الدولة التي تطبِّق الدستور وتشكل المرجعية الأولى والأخيرة للشعب اللبناني.

 

ثالثاً، لا قضية أكبر من القضية اللبنانية التي أولويتها المطلقة الانسان اللبناني وعَيشه الكريم، فلا شيء يعلو على المسألة اللبنانية، ولم ينزلق لبنان إلى الحروب واستمراره في الفوضى سوى بسبب تَبدية البعض لمسائل وقضايا أخرى على حساب القضية اللبنانية.

 

رابعاً، يستحيل قيام دولة واستقرار وازدهار من دون سيادة على كامل الأرض اللبنانية ومن هذا المنطلق رفع شعار 10452، وأثبتت التجربة انه منذ اللحظة الأولى التي سقطت فيها السيادة اللبنانية تحوّلت الدولة إلى دولة شكلية وسقط الاستقرار وانتفى الازدهار. وبالتالي، يستحيل التعايش بين دولة ودويلة، بين سلاح شرعي وسلاح غير شرعي، كما انه يستحيل تطبيق الدستور والقانون والوصول إلى العدالة وممارسة الشفافية في دولة قرارها مُصادَر ومخطوف، وكل الكلام عن محاربة الفساد بفصله عن السيادة غير ممكن، لأنّ دولة السلاح غير الشرعي تستفيد من الفساد لتغطية مشروعها.

 

خامساً، الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن مشروع المقاومة اللبنانية سقطوا في لبنان ودفاعاً عن الأرض اللبنانية والدولة والهوية والحرية والتعددية ونمط عيش اللبنانيين، فيما مَن سقط دفاعاً عن مشروع المقاومة الإسلامية سقط في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبوسنة والهرسك وكل أنحاء المعمورة، الأمر الذي يؤكِّد بأنّ مشروع المقاومة اللبنانية هو للبنان وجميع اللبنانيين وهدفه قيام دولة فعلية وتحقيق الاستقرار والازدهار للمواطن اللبناني، فيما مشروع المقاومة الإسلامية يسعى لأمة إسلامية أو خمينية بشكل أدقّ ولا علاقة لهذا المشروع بلبنان وتطلعات اللبنانيين، والدليل هو الحال المأسوية التي انزلقَ إليها البلد مع هذا المشروع.

 

في الذكرى الـ40 لانتخاب بشير الجميّل وانطلاقة «حزب الله» يَتظهّر أكثر فأكثر حجم الهوة غير القابلة للردم بين مشروعين متناقضين يستحيل التقاؤهما: مشروع للبنان والانسان اللبناني يستمد قوته من الشعب والشرعية والمؤسسات والقانون والقضاء والدستور والدولة، ومشروع لأمة خمينية يستمد قوته من الفوضى وعدم الاستقرار والحروب الدائمة.