أربعون عاماً كأمس الذي عبر. هي هنيهة في عين الربّ. ولحظة في التاريخ. ومن المؤكّد أنّها لن تتكرّر. لو أنّ التّاريخ يعيد نفسه، لكن الأسماء والظروف قد تبدّلت إلا انّ مواصفات بشير الجميل ما زالت حتّى الساعة المعيار الأصيل لبناء أيّ جمهوريّة قويّة. كثر رافقوه في مسيرته السياسيّة والعسكريّة. منهم مَن رحَل ليجتمع به بعد سنين على فراقه، وقلّة ما زالت على قيد الحياة. يتابعون مسيرته بالفكر والعلم والعمل. فماذا يقول هؤلاء لبشير الجميّل بعد أربعين سنة على رحيله؟
وبعد أربعين عاماً على رحيل البشير يخاطبه النائب جورج عدوان، عضو تكتّل الجمهوريّة القويّة، رفيق السلاح والنضال والمقاومة، وبحقّ الصداقة التي جمعتهما قائلاً:
«صديقي العزيز
كم كنت أتمنى أن أخبرك أنّ ولو جزءاً من أحلامك وأحلامنا في الوطن قد تحقّق، لكن ومع الأسف إنّنا نعيش واللّبنانيين على امتداد 10452 كلم2 مأساة حقيقية وعلى مختلف الصعد».
ويعدّد عدوان هذه المأساة التي يعيشها اللبنانيّون من دون استثناء كالآتي:
«الدولة مفكّكة، والمؤسسات معطلة، والسيادة منتهَكَة، والمواطن يعاني من فقدانه أبسط مقومات الحياة الحرّة».
ولأنّ المقاومة اللبنانية هي مسار من تاريخ في النضال لا ينتهي، ولا يحبِط مَن يأخذه دستوراً لحياته، يعتبر عدوان أنّه «في خضم كل هذا السواد القوات التي أسّسناها معاً على الوعد والعهد، باقية لا تحيد، لا تتعب، لا تكلّ، ولن ترتاح قبل تحقيق الأمل والحلم الذي حلمنا به معاً، وجسّدته أنا وأنت».
ويختم عدوان لأنّه الصديق الوفي قائلاً: «صديقي في الوجدان باقٍ باقٍ باقٍ».
أمّا الأب البروفسور جورج حبيقة، النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية، والرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الكسليك فيرى بعد أربعين عاماً أنّ الرئيس الشهيد قد «تفرد بأمور عديدة. ومنها:
– أولاً تعاطيه مع الزمن. كان ثائراً على سياسيي لبنان والشرق بالنسبة إلى العلاقة المطاطة التي أقاموها مع الزمن بخمولهم المرضي. وهذه العلاقة المطاطة تشي بانعدام روح المسؤولية وعدم الجدية وعدم الإطلاع». ويتابع الأب حبيقة مفنّداً السبب، فلذلك «كان يقول الرئيس بشير إن المسؤولين في لبنان سلموا جميع شؤون اللبنانيين إلى دائرة سياسة التسويف. وهكذا أصبح التعاطي مع القضايا المهمة والمصيرية عبر التأجيل، مراهنين على الزمن».
ويتابع «نحن نعرف حق المعرفة أن الزمن لا يحل شيئا من تلقاء ذاته، لا بل يزيدها تعقيداً.» ويستذكر الأب حبيقة ما كان يقوله الرئيس الشهيد : «لقد دفعنا مئة ألف قتيل ثمن سياسة التسويف».
من هنا يرى حبيقة كم « كان حازماً إلى أقصى درجات الحزم في معالجة فورية ومستندة إلى أبحاث رصينة وواسعة، لجميع المصاعب والمسائل والشؤون».
– ثانياً، يعرض الأب حبيقة كيف «تميز الرئيس الشهيد بوعيه العميق للشأن العام وأهميته القصوى في بناء الجمهورية». فبالنسبة إليه تبدو رؤية بشير كالآتي: «لا وطن ولا مجتمع ولا هوية وطنية مع شأن عام يتيم ومشرد ومنبوذ ومهترئ. كان همه الأساسي أن ينقي اللاوعي المجتمعي لدى اللبنانيين من ترسبات الإحتلالات المتتالية والمزمنة وآخرها أربع مئة وسنتان من الإحتلال العثماني، حيث الشأن العام كان بإدارة مباشرة من الأجنبي الغاصب». ويتابع حبيقة مفنّداً نظرة بشير إلى اللبنانيّين الذين في «لا وعيهم يكرهون الشأن العام ويسلبونه ويدمرونه. كيف السبيل إلى إعادة تربيتهم وتنشئتهم على حب ما هو عام ومشترك بين جميع اللبنانيين وما هو مؤسسات عامة، كأنها شأن خاص، نسهر عليها بحدقة العين ونحيطها بالاهتمام الكامل والمستدام».
ويتابع الأب حبيقة « لذا انذهل اللبنانيون كافة من انتظام مؤسسات الدولة ومرافقها فوراً بعد انتخاب الرئيس بشير الجميل وحتى استشهاده. وهذا خير دليل على مدى النجاح النوعي والمدهش الذي حققه، قبل استلامه رسمياً الحكم، في مصالحة اللبناني، كل لبناني، مع الشأن العام ومؤسسات الدولة اللبنانية».
ويختم الأب حبيقة حديثه لنداء الوطن « كان رجل دولة إستثنائياً. همه الأول والأخير كرامة كل لبناني وحريته ووعيه لعظمة لبنان ورسولية كيانه. من أجل هذا اللبنان، لبنان الإنسان، لبنان الإبداع، لبنان صديق الحياة والفرح، استشهد الرئيس بشير الجميل».
أمّا النائب السابق إيلي كيروز، الذي كان رفيق السلاح والنضال والمقاومة مع البشير في المقاومة اللبنانية وفي حزب القوات اللبنانيّة فيرى أنّه «في الذكرى الأربعين لاستشهاد بشير الجميل، يبقى بشير الجميل في الذاكرة المسيحية واللبنانية، قائداً لبنانياً ورمزاً مسيحياً، ورائداً في مواجهة الاحتلالين ورجل مقاومة وقضية». فبالنسبة إلى كيروز إنّ بشير الجميل الشهيد، «قد دفع حياته ثمنًا لايمانه بلبنان، وكان أيضاً الرئيس السابع للجمهورية اللبنانية. ولقد حظي بشير بالشرعية الرسمية بعد الشرعية الشعبية عبر انتخابه من مختلف الأطياف اللبنانية المتمثلة في مجلس النواب على الرغم من كل الضغوط والاعتداءات وتفجير المنازل».
لقد كان بشير الجميل المثال الحقيقي للرئيس القوي، خلافاً لأقوياء اليوم، والطالع من معاناة المسيحيين واللبنانيين وتوقهم الى الحرية والاستقلال. بالنسبة إلى كيروز. ويرى أيضاً أنّه «قد مثل فرصة حقيقية لاستعادة لبنان وتحريره من الهيمنتين الفلسطينية والسورية».
ويتابع كيروز «إنّ انتخاب بشير الجميل استهوى عدداً متزايداً من اللبنانيين، إذ دعا إلى تحرير لبنان من جميع القوات الأجنبية وإلى بناء دولة قوية وجيش متماسك للدفاع عن استقلال لبنان ووحدة أراضيه. كما دعا إلى تعزيز مجتمع عادل حيث تعتمد الجدارة والكفاءة».
ويستعيد كيروز قرار اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل مذكّراً اللبنانيّين بعد كل هذه السنوات بأن «قرار اغتيال الرئيس الشهيد هو قرار سوري بتنفيذ من الحزب السوري القومي الاجتماعي بواسطة نبيل العلم وحبيب الشرتوني».
ويختم كيروز حديثه لنداء الوطن ملاحظاً أنّ ذكرى استشهاد بشير «تصادف دخول لبنان في معمعة الاستحقاق الرئاسي الأمر الذي يدفعني الى استحضار قامة الرئيس الشهيد كي تمثل نموذجاً يُحتذى في اختيار الرئيس العتيد لا سيما وأنّ تجربة الرئيس الحالي شكّلت خيبةً هائلة وعكست سقوط مفهوم الدولة في مواجهة مفهوم الدويلة».
في المحصلة، بعد أربعين عاماً ما زال بشير حيّاً فينا، مجرّد ذكر اسمه يرعب كلّ من لا يريد جمهورية قوية. هو الذي أرسى قواعد الكيانيّة اللبنانية، وجه لبنان الجديد. ولن يكون أو يقوم أيّ لبنان إلا على هذه الأسس، لأنّ الحريّة هي جوهر الوجود، وهي جوهر القضيّة اللبنانيّة. ولا يظنّنَّ أحد أنّ بمقدوره تغيير الهوية التي قام عليها لبنان الـ 10452كم2، لأنّ المقاومة اللبنانية حيّة فينا، وروحها من روح البشير. وأجيال بشير كمّلتها الأجيال التي تلتها، وشعلة المقاومة حيّة، ومصابيحنا مشتعلة ننتظر عودة لبنان. ومَن يسهر على وطنه، وطنه حيّ لن يموت.