في الذكرى الأربعين لاستشهاد القائد بشير الجميّل، من الضروري، بل من الواجب السعي والعمل على إبراز المعطيات التي أحاطت بنضاله ونجاحه ورئاسته واستشهاده. وفي هذا المجال هناك الكثير مما يقال ويُكتب ويُعلن مع ما فيه من تصوّرات تخييلية خادعة وابتعاد عن الحقائق التاريخيّة… إن أهم خدمة تقدّم لذكرى البشير، وحتى لأعدائه بالذات، هي في إبراز الحقائق العلمية التي طبعت هذه المرحلة من حياة البشير والتي هي وحدها، تقدّم الأدلة الدامغة على مواقفه وخياراته وخاصة في موضوع علاقته بإسرائيل. إن لهذا الموضوع دقّته وخطورته في آن. ذلك أنه يرتبط بدولة عدوّة للبنان والعلاقة بها تشكّل “خيانة وطنيةّ”.
فهل كان البشير غافلاً عن ذلك؟
وإلا فما هو معنى العلاقة بإسرائيل لديه؟ متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأي دور له في رسم ملامح هذه المرحلة من تاريخ لبنان؟
أولاً: بشير الرئيس
لعلّ أفضل وصف أطلق على شخصيّة بشير الجميّل في أوائل الثمانينات، والذي يصحّ على الرئيس المطلوب للبنان في أيامنا هذه، هو ما كتبته صحيفة النيويورك تايمز الأميركية بتاريخ (25/8/1982 ) وفيه: “بشير الجميّل رجل لا يساوم صريح وحازم” أليس لبنان بحاجة الى مثل هذه النوعية من الرجال؟ نوعية الرجل المبدئي رجل الموقف والقرار، رجل لا يساوم لا على المبادئ، لا على الوطن، لا على القناعات. إنّه رجل الصراحة الذي لا يناور، رجل أهداف وليس رجل أساليب. رجل استراتيجية وليس مجرد رجل تكتيك. بصراحته يحترم نفسه ويحترم الحقيقة ويحترم الآخرين.
وهو رجل حازم إذا قال فعل، وإذا قرّر نفّذ، والحازم ليس الإنسان المنغلق على الرأي الواحد، بل هو العاقل ذو الحنكة الذي يتّخذ القرار المناسب في الظرف المناسب من دون تعثّر أو إبطاء أو تردد!
ثانياً: بشير… وإسرائيل
في منتصف العقد السابع من القرن الماضي (1975) اندلعت حرب الآخرين على أرض لبنان كما وصفها الصحافي الكبير غسان تويني. وقد شاركَت فيها قوى متعددة لبنانية وعربية وإقليمية ودولية. وكان الهدف الأساسي فيها فرض هيمنة الفصائل الفلسطينية على لبنان تمهيداً لتوطين الفلسطينيين في لبنان. كانت هذه واحدة من أهداف مشروع هنري كيسنجر الأميركي اليهودي القائم على اقتسام لبنان الى منطقتين وفقاً لنظام الخطوط الحمر. على أن يكون لبنان الوطن البديل للفلسطينيين فتحلّ عقد الشعب الزائد في المنطقة، لكن تحقيق هذا الهدف يستدعي السيطرة على لبنان أولاً، وهذا لن يكون ممكناً إلا بالسيطرة على المسيحيين وهو ما قاله كيسنجر للرئيس حافظ الأسد يوم فاتح الأميركيين بإمكانية الدخول الى لبنان.
كانت الجماعة المسيحية بقيادة بشير الجميّل تواجه: منظمة التحرير الفلسطينية ومختلف الفصائل، وقوى اليسار اللبناني، والحركات الأيديولوجية بانتماءاتها السورية والعربية والماركسية ثم بفصائل جيش النظام السوري. لقد شعر المسيحيون، وعلى رأسهم الشيخ بشير بخطورة وضعيتهم وأدركوا أنهم مهدّدون بوجودهم ومصيرهم. وكان لا بدّ من قوة مساندة تبعد عنهم خطر الزوال. وهذه الوضعية التاريخيّة المأسوية جعلت الاتصال بإسرائيل كقوة رديفة تحقق توازناً جديداً في ميزان القوى أمراً شبه مفروض على الشيخ بشير ومناصريه. إنه الموقف الذي يواجه فيه الإنسان الموت المحتّم وحتى الفناء في وجه أخصامه. وهذه قاعدة فرضها نظام الحياة والبقاء في وجه الفناء والامحاء! ولعلّ أفضل دليل عليها هو طلب ايران الخميني الدعم العسكري من إسرائيل في الثمانينات (1980-1988) للردّ على هجوم الرئيس العراقي صدام حسين وقد خسرت ايران ما يقارب المليون مقاتل أي ما عرف بالموجات البشرية. إن الإمام الخميني بالذات وجد أنه مضطر لطلب الدعم من إسرائيل لمواجهة العراق الذي يدعمه الغرب بكافة أنواع السلاح. وذلك حفاظاً على دولته وثورته ووجوده وهكذا كان.
لقد حدّد زعماء إسرائيل أهدافهم من حربهم في لبنان – حرب سلامة الجليل. فأكد رئيس الوزراء مناحيم بيغن، أنه يتطلع الى اليوم الذي يوقّع فيه لبنان الحرّ معاهدة مع إسرائيل ويعيشان بسلام الى الأبد (السفير 22/6/1982) وان الحكومة مصممة على إقامة مثلث سلام بين مصر وإسرائيل ولبنان (السفير 29/6/1982) أما وزير الدفاع ارييل شارون فأكد: “أننا لم نحارب في لبنان من أجل المسيحيين وإنما لإحلال السلام مع دولة عربية أخرى وثلاث دول مطلة على البحر المتوسط هي مصر ولبنان وإسرائيل يمكن ان تشكل مثلث سلام” (السفير 29/9/1982) مناحيم بيغن قال “لن نسمح بتعرض المسيحيين في لبنان لمذابح” (أحداث لبنان ص 98) موشيه دايان حدّد المبادئ التي توجّه سياسة إسرائيل حيال لبنان وفيها: “منع سحق الأقليات المسيحية” ( خويري – أحداث لبنان ص 412):
لكن القيادات الإسرائيلية أصيبت بخيبة أمل شديدة جرّاء المواقف التي اتخذها المسيحيون اللبنانيون بقيادة بشير الجميّل وهي مواقف تعبّر عن رفضها الانصياع لأوامر السلطات الإسرائيلية. وعن تمسّكها بمفهوم الحياة المشتركة المسيحية – الإسلامية. ومجازر صبرا وشاتيلا هي محاولة من الأجهزة المعروفة لشطب هذا المفهوم.
أكثر من ذلك، لقد ساء الإسرائيليين ان تمتنع القوة المسيحية عن المشاركة في حرب السيطرة على بيروت. وكان مثل هذا التصرف مثار حقد وخيبة لدى المسؤولين الإسرائيليين الذين أدركوا بوضوح أن القوات اللبنانية التي تأتمر بقيادة بشير الجميّل ليست فصيلاً في معسكرات شارون!
ولعلّ الحدث الأبرز في العلاقات بين الرئيس بشير الجميّل وقادة إسرائيل هو اجتماع نهارية في أوائل أيلول 1982 مع مناحيم بيغن وارييل شارون. ولقد سعى بيغن أن يجعل من هذا الاجتماع جلسة محاكمة للرئيس الجميّل الذي لم ولا ينفذ ما يطلب منه الإسرائيليون فلقد طفح الكيل لدى قادة إسرائيل من هذا التصلّب والاستقلالية في القرار التي يعتمدها الرئيس الجميّل. ووصف الاجتماع بانه اتخذ طابعاً غير وديّ. وفيه حاول بيغن أن يقلل من احترامه لبشير فردّ عليه قائلاً: “صحح كلامك فأنت تخاطب رئيس دولة”. وعندما دعاه لأن يتخذ قراراً لصالح إسرائيل ردّ عليه بالقول: “أنا رجل ديمقراطي والقرارات نتخذها مجتمعين”. وكان يقصد بذلك جمع الإرادة المسيحية والاسلامية في السلطة اللبنانية. لقد كان النقاش حاداً وخرج بشير من اللقاء مستاءً من لهجة بيغن الإكراهية إزاءه ( شيمون شيفر – كرة الثلج ص 233)
لقد كشف هذا الاجتماع ان بشير الجميّل ليس من الصنف الذي يتلقى الأوامر. وقد كان ذلك بمثابة تجربة جعلت مناحيم بيغن يقلل من الإنجازات التي يمكن ان تنتج عن حرب لبنان (شيمون شيفر- كرة الثلج ص 283)
كان الشيخ بشير يعيش مأساة نفسية بين موقعه الجذري دفاعاً عن المسيحيين ولبنان الـ 10452 كلم2 في وجه الهجمة السورية من جانب وموقفه المحرج أخلاقياً وفكرياً وسياسياً إزاء ما يمكن أن تقوم به إسرائيل لوقف الهجمة السورية على لبنان ولهذا حاول أن يستغل دون أن يرتهن فلم يشارك في قتال أبناء وطنه وفتح حواراً مع المسلمين (الرئيس صائب سلام) فور انتخابه للرئاسة وردّ بكبرياء رئاسية وطنية حاسمة ورافضة على إملاءات مناحيم بيغن في نهارية وهكذا وضع نفسه في عين الإعصار السوري – الاسرائيلي في آن.
وزاد من مخاطر استهداف الشيخ بشير السياسة الأميركية الجديدة التي اقترحها ممثل الرئيس ريغان السيد فيليب حبيب وهو من أصول لبنانية. فلقد اعتمد ما أطلق عليه «الخطوط الخضر» بديلاً للخطوط الحمر لهنري كيسنجر وخلاصتها:
– الانقلاب على خطة كيسنجر في لبنان.
– وضع كافة القوى الأجنبية خارج لبنان.
– تأييد دعم لبنان الدولة والسلطة والكيان.
– الرهان على الشيخ بشير الجميّل رئيساً وحيداً قادراً على القيام بهذه المهمّات.
إنها استراتيجية جديدة بمثابة انقلاب في دوائر واشنطن وتل أبيب ودمشق، فجوبه بالرفض وبدأ السعي لإسقاطه. وإسقاطه يكون بإسقاط هذا الرجل الذي يجسدّه والمشرف على تنفيذه أي شطب الرئيس بشير الجميّل الرجل المفتاح في المعادلة اللبنانية الدولية!
وهكذا سقط الرئيس الجميّل على خط التماس في صراع القوى الكبرى ولعبة الأمم واستشهد من أجل قناعاته وأحلامه مجسداً روحية شعب حرّ ومقاوم.
لقد استخدم بشير إسرائيل لأهدافه ولم يكن عميلاً لها. ولذا اجتمعوا كلّهم للتخلّص منه كمحور للحياة اللبنانية الجديدة!
وفي هذا يكمن الفارق الكبير:
بين التصوّرات الخادعة لأعدائه… وحقائق التاريخ لمنصفيه!