IMLebanon

هل الزمن يمضي سريعاً أم نحن أسرى الحالة البشيرية؟

 

41 عاماً على استشهاد بشير وهو حيٌّ فينا

41 عاماً مرّت. أتتصورون؟ يا الله. كأنه اليوم. كأنها البارحة. كأننا في 14 أيلول 1982. وكأنني أسمع صراخ أبي مجدداً- وضرباتِ يدهِ بقوّة على الجدران- وصوته المتهدج الباكي يردد: مات… قتلوه… إغتالوا بشير… بشير مات. إستشهد بشير. إستشهد حلمنا ببشير وبوطنٍ تمنيناه وحلمنا به على شاكلة البشير. إغتيل بشير ومعه الحلم. 41 عاماً مضت. تُرى هل الزمن يمضي هكذا سريعاً أم أننا من نعيش أسرى الحالة البشيرية؟ أليس بشير نفسه من قال: «إذا متت وما إجا من بعد مني ستين الف بشير ستين سنة عليكم وعلى القضية». فلتكن الذكرى محطة للقول من جديد: نحن هنا. القضية ستبقى بخير. أكاديمية بشير ومؤسسة بشير وفكر بشير وأحلام بشير هنا. ولتقل الأشياء- كما قالها البشير- بوضوح، بلا مواربة، وعلى راس السطح: «لا إنتَ ولا الأكبر منك بركعنا».

بشير الجميل شهيداً. وماذا بعد؟ فلنسأل من الآخر: لماذا بقي بشير حياً فينا ينبض يخفق يتغلغل في حنايانا كل هذا العمر؟ أتذكر أنني سألتُ سجعان قزي قبل أشهر من وفاته هذا السؤال فأجاب: «لأن كثراً أتوا الى لبنان بكمّ من الوعود وانتهى الأمر بهم الى ركود. أما هو، فاستطاع في 21 يوماً أمضاها رئيساً، إحداث التغيير». أترى هذا التغيير الذي شعرنا به، ولامس الروح، هو الذي يشدنا الى «البشيرية»؟ أترى هذه القدرة على التغيير- الذي حققه في 21 يوما – هي التي قتلته؟

 

أنجب البشير مايا، الشهيدة مايا، ويمنى ونديم، وبعد مماته اصبح محبوه على امتداد الـ 10452 كيلومتراً مربعاً، وولدت باسمِهِ مؤسسة بشير وأكاديمية بشير. في الذكرى الواحدة والأربعين نسأل رئيس أكاديمية بشير ألفرد ماضي، والمسؤول الإعلامي في مؤسسة بشير جو توتونجي، عن بشير قبل 41 عاماً واليوم وغداً.

 

 

 

من هنا بدأنا

 

فلنبدأ من الذاكرة التي هي خزان عظيم، طبقات على طبقات على طبقات… فلنبدأها من 14 أيلول 1982. ألفرد ماضي أين كنت في تلك اللحظة؟ يجيب: «في ذاك النهار، وكان يوم الثلاثاء، قررت الذهاب الى البحر، بعد تنظيمي يوم الإثنين لزيارة قام بها وفد درزي لتهنئته. أتذكر أنه يوم الإثنين ذهب لتقديم التعازي وحده بعدما طرد مرافقيه. تكلمتُ معه صباح الثلاثاء. طلبتُ منه أن لا ينزل الى بيت الكتائب في الأشرفيه. أجابني: أنا وأنت بدأنا من هنا، من بيت كتائب الاشرفيه، وستكون زيارتي الأخيرة إليه قبل دخولي القصر الجمهوري. وسأعود إليه بعد انتهاء ولايتي. وقال لي: أنتظرك مساء في منزلي. ذهبت للسباحة وألحت يومها عليّ فكرة، أقولها للمرة الأولى، أن واحدة من مشاهير قارئات المستقبل في الولايات المتحدة الاميركية، واسمها جين، تنبأت أمامي بأن بشير سيموت في انفجار قبل أن يدخل القصر الجمهوري. وأن المسؤول عن موته يجلس على شماله. كنت قد أخبرته عنها فقال لي مبتسماً: مثلما يريد الله. في كل حال، بعد ظهر يوم الثلاثاء، سمعت انفجاراً. وحين عرفتُ أنه في بيت الكتائب قلت: راح بشير. إنتقلت بسرعة الى المجلس الحربي وهناك رأيت الشيخ بيار (الجميل). كانت الأخبار كثيرة، واحدة تأخذنا وثانية تعيدنا الى واقعنا. طلبوا منا، أنا وبول (الجميل) وكريم (بقرادوني) وزاهي (البستاني) الإنتقال الى مستشفى اوتيل ديو للتأكد من الجثة. ذهبنا سمعنا من بول أنهم وجدوا بشير ميتاً. عرفوه من محبسه المسدس الأضلع شكلاً».

 

ننتقل الى جو توتونجي لسؤاله عن نفس اللحظة؟ يجيب: «كنت في إقليم كسروان. سمعتُ انفجاراً كبيراً. أمسكتُ بالهاتف لاشعورياً واتصلت ببيت الكتائب. أجابت تريز (السكرتيرة آنذاك). كانت «تولول»: هبط البيت علينا. في تلك اللحظة شعرتُ بغمامة سوداء أمام عيني. صرخت. وانتقلت بسرعة مع المسؤول عن جهاز الأمن الى الأشرفيه. لا أتذكر كيف قدت وكيف وصلت. تركت السيارة في شارع ساسين وهرولت نحو بيت الكتائب. كان مشهداً فظيعاً. إنتظرنا نحو ساعتين ونصف الساعة تقريباً. رفعوا جثثاً من المكان لكن جثة بشير لم تظهر. بحثنا عنه في المستشفيات. وكلما تقدم الوقت كنا نتأكد من موت الباش. قلت لنفسي: قضي الأمر. في مستشفى اوتيل ديو «وشوش» شخص الدكتور بول الجميل خبراً مضمونه: تعرفوا على بشير جثة من محبس زواجه «السبيسيال». إنتقلنا الى المجلس الحربي. كان الشيخ بيار وشارل مالك والأباتي بولس نعمان وأبونا أنطوان كرم. رأيت في تلك اللحظات، فور سماع خبر استشهاد بشير، شارل مالك يركع أمام بيار الجميل مقبلاً يده ومردداً: طار الوطن… ضيعانك يا لبنان… ضيعانك يا لبنان. مشهد لا يمكن أن أنساه. وجه الأباتي نعمان كان أسود. كان يحب بشيراً ويراه مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع. كانا يرسمان إستراتيجيات المرحلة».

 

 

 

ماذا فعلنا بعد بشير؟

 

كلام ألفرد ماضي وجو توتونجي يحيي فينا وبقوّة مشاعر تلك اللحظات. لكن، فلننسحب رويداً من الذاكرة ولنسأل الرجلين عن معنى مقولة: بشير حيّ فينا؟ كيف يعيش بشير اليوم في الشباب والشابات؟

 

يقول ألفرد ماضي: «هناك سؤال طرحناه على أنفسنا: ماذا فعلنا نحن بعد بشير؟ لماذا نتذكر شخصاً مات منذ 41 عاماً؟» يتابع ماضي: «قال بشير ذات يوم: دفنت الصيغة ووضعت عليها حارساً. لكن ما حصل أن الحارس مات أيضا يوم راح البشير. الصيغة بنت تركيبة لا دولة. ولم يجد البلد من يقول: كفى. لهذا غادرت لبنان بعد استشهاد بشير. ويوم عدت قررت إحياء الذكرى من خلال أكاديمية بشير، للحفاظ على نهجه من خلالها. ثلاثة خطابات قدمها بشير غيرت البلد وأسست لدولة».

 

إنطلقت فكرة اكاديمية بشير في العام 2018 ونُفذت عام 2019. ويقول ماضي: «نعلم في الأكاديمية بشير وفكر بشير ونهج بشير. هدفنا الجيل الجديد الذي يتلقى الحالة البشيرية على مستويين: المستوى الأول يعرف فيه عن بشير من خلال رفاق بشير الذين بدأوا يرحلون واحداً تلو الآخر. كل واحد من هؤلاء يعطي خبرته مع بشير من زاوية معينة، ومن هؤلاء أنطوان نجم وجورج فريحة ونعوم فرح وأنا وروي بدارو وعماد مراد الذي يعطي تاريخ المقاومة وأضفنا أيضا مادة القوى النظامية ويعطيها فؤاد أبي ناضر. أما في صف المستوى الثاني، فيتم إعداد الطلاب في الأكاديمية ليصبحوا قادة».

 

 

 

علاقة جو وبشير

 

ماذا عن مؤسسة بشير؟ ماذا عن علاقة جو توتونجي ببشير قبل أن يتزوج الباش من شقيقته صولانج توتونجي؟ يجيب جو: «مات بشير بعمر 34 عاماً وكان عمر صداقتنا 24 عاماً. أتذكر أن والدي أخذني وأنا طفل الى منزل الشيخ بيار وقال له: بدي عرّف إبني على إبنك (على بشير) وبقينا معاً. والتقينا في مصلحة طلاب الكتائب ثم في الجامعة اليسوعية. أحبّ الناس البشير لأنه كان قريباً منهم. هو كان يسبقهم الى جبهة عيون السيمان والى جبهة حامات والأسواق. كان يتكلم مع الشباب باللهجة المحكية بلا ألغاز وشعر ونثر. كان رؤيوياً فأحبه الكبار والصغار. وكان لا بُدّ من إحياء مؤسسة بشير للمحافظة على تراث بشير الخطابي وتمكين الأجيال الجديدة من التعرف عليه. وأظن أننا نجحنا بذلك بدليل أنه عند كل مفترق طريق ينادي الشباب: وينك يا بشير؟».

 

حافظت مؤسسة بشير على 95 في المئة من أرشيف بشير الموجود حالياً في الكسليك، في مركز الأبحاث في الجامعة، منذ سبعة أو ثمانية أعوام. ويقول توتونجي: «تعلّم على نفقة المؤسسة 4600 طالب ثانوي و2500 طالب جامعي و250 طالباً تخصصوا في الخارج. وولدت أيضا من رحم المؤسسة أكاديمية بشير».

 

ماذا عن عدد من دخلوا الأكاديمية؟ يجيب ماضي: «حصل على المستوى الأول من دروس الأكاديمية أكثر من 700 طالب وطالبة ـ ودروس المستوى الثاني من الأكاديمية تقدم إليها مئة أخذنا منهم 16 طالباً وطالبة».

 

حين يمشي ألفرد ماضي في أحياء الأشرفيه اليوم يتذكر «بشير في كل حناياها وحرب المئة يوم» ويستطرد «أخذت بشير الى اميركا أول مرة. ويومها إستقبلت الجالية اللبنانية بشيراً بشوقٍ. ذهبنا الى نيويورك وتكساس ولوس أنجليس وشيكاغو وواشنطن وبوسطن. وفي تلك الرحلة قررنا فتح مكتب أميركا وانطلاق اللوبي».

 

في كلام الرجلين كثير من الحنين. توتونجي يتكلم عن بشير بكثير من العاطفة والعقل وماضي يتحدث عنه بكثير من العقل والحب. مرّ الوقت بسرعة. اليوم الذكرى الواحدة والأربعين فلنترك محبي بشير يحيون ذكراه الجديدة مع وعد: بشير سيبقى حياً فينا.