IMLebanon

بشير الجميل خارج المعادلة الإقليمية

يحمل أيلول متناقضات لبنانية، وفي كل سنة يكون للبنانيين المتناقضين مع أيلول محطات وذكريات، ومع كل تاريخ من هذا الشهر يكتشف اللبنانيون أن انقساماتهم ما زالت عميقة إلى حدٍّ يصعب ردمه، وأن الخلافات التي عصفت بهم ما زالت خبيئة في النفوس، وعند كل مناسبة تطل على الألسنة وفي متن النصوص.

تاريخان ونصّان ما زالا يتمتعان بالنضارة السياسة الانشقاقية. تاريخ ونصّ اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل، وتاريخ ونصّ انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. التاريخان كانا صراعيين، والنصان كانا متضادين، أما الآن فيلزم القارئ والسامع الكثير من الحكمة والصبر، ليعيد هذا أو ذاك اكتشاف مضمون النص ومعنى التاريخ الخاص بطرفي الانقسام اللبناني الماضي، ليكون متاحاً بناءً على ذلك، مراجعة ما هو واجب المراجعة في السياسة؛ ولتجاوز ما هو مطلوب تجاوزه على صعيد الفكرة، وفي ميدان الرؤية الوطنية اللبنانية الراهنة والمستقبلية.

من دون مواربة، أو من دون تغليف الانقسام السياسي بأغلفة الكلام المنمق، يجب القول إن بشير الجميل سقط على خط تماس المعادلة الصراعية الإقليمية، ذلك أن من لجأ إلى تنصيب بشير الجميل رئيساً هو ميزان القوى الإقليمي الذي اختل اختلالاً فادحاً عندما احتلت القوات الإسرائيلية الأرض اللبنانية، وعندما توجب احتلالها تكريس نتائج الاجتياح العسكري من خلال وصول شخصية بشير الجميل وما يمثله داخلياً، إلى أعلى منصب في الهرم السياسي اللبناني. هذا كان الهدف الإسرائيلي، وهذا ما التقى معه صف واسع من اللبنانيين الذين رأوا في بشير الجميل وطنياً مخلّصاً، ورأوا في الدعم الإسرائيلي نجدة «صديقة» لا بديل منها، لاقتلاع ما كانت تسميه آلة إعلام «الجبهة اللبنانية»، جيوش الغرباء من لبنان. بوضوح كان ذهاب بشير الجميل خسارة مدوية للمشروع السياسي الذي أختير «الرئيس الشاب» ليكون عنواناً لمراحله المستقبلية.

ومن دون مواربة أيضاً، وبوضوح ودقة ولسان سياسي فصيح، يجب القول إن من قرَّر اغتيال بشير الجميل الرئيس، وضع في حسابه مواجهة الاختلال الحاصل في الميدان القتالي، وعلى الصعيد السياسي، بتوجيه ضربة إلى رأس المشروع السياسي، وإلى الرمز الذي أنيط به تنفيذه، وربما ورد في خاطر صاحب القرار، أن الرئيس الآتي هو النقطة الأضعف التي يمكن الوصول إليها، لكنها ذات المردود الأعلى سياسياً، إذا ما نجحت خطة استهدافها، وحالف الفوز عملية النيل منها.

خلاصة القول، ما كان صعباً تعديله في الميدان العسكري، أمكن تعديل بعضه في المجال السياسي، لذلك كانت «معركة» إقصاء بشير الجميل بالقتل، دلالة على أن هزيمة المحور الآخر من جانب إسرائيل، لم تضع نقطة ختامها، وأن ما بعد بشير الجميل، لن يكون على شاكلة ونسق ما كان قبل انتخابه.

التاريخ الآخر كان موعد إطلاق النداء لقتال القوات الإسرائيلية الغازية، والنص الذي أعلن كان التتمة السياسية والقتالية لعملية الاغتيال «الرئاسية»، فمن جهة استهداف حليف الداخل الخصم، ومن جهة توجيه الضربات إلى قوى المشروع الميدانية، أي القوات الإسرائيلية، التي شكلت العمود الفقري لعملية تطويع الوضع اللبناني، وإلحاق قرار الجمهورية الجريحة بموقع السيطرة في «تل أبيب». وكي لا يكون التكاذب سيد الموقف، لقد رأى الفريق اللبناني الذي تصدى لإسرائيل في سقوط بشير الجميل حدثاً سعيداً، ولم يدر في خلد أحد سؤال عن ماذا بعد. لقد كانت العداوة مستشرية إلى الحد الذي لا يمكن معه تبيُّن خيط الموقف الأبيض المباشر، من خيط الموقف الأسود المستقبلي، وجاءت الأحداث التي تلت غياب بشير الجميل لتحفر في خنادق الانقسام الداخلي بدلاً من أن تساهم في ردمها، وكانت حرب الجبل العنوان الأبرز لسياسات الإقصاء والاقتلاع بالقتل والتهجير، الحرب التي حظيت برعاية المعادلة الإقليمية التي كان طرفاها غير المضمرين، سورية وإسرائيل.

ماذا عن الآن؟ لقد جرت العادة، حتى تاريخه، على أن تكون القوى اليسارية والقومية والتقدمية هي المبادر إلى مراجعة حقبات السياسة الغابرة، ومهما قيل في عدم اكتمال تلك المراجعات، أو في عدم صوابها الإجمالي، أو في ابتعادها عن الجوهري في كل مراجعة… مهما قيل، فإن «لوم» الذات اليسارية والوطنية والقومية، ظل هو المراجعة الوحيدة المعلنة. في مقابل ذلك، ما زال ورثة «الجبهة اللبنانية» يرددون تقريباً نفس فحوى الكلام السابق بعبارات جديدة، وما زال ورثة «البشيرية»، يجدون في إرث البشير فردوساً مفقوداً. إذن ما زال لبنان محشوراً بين خطابين لم يذهبا إلى الماضي، وما زال الحزن السياسي في مكان، حبوراً سياسياً في مكان آخر، وما زال الشهيد هنا قتيلاً هناك حتى إشعار وطني بعيد.

هل يقصي نبأ الماضي أنباء الحاضر؟ بالتأكيد لا، لكن قراءة الوقائع الماضية كوقائع، لا ترتبط بما أعقبها من تطورات وأحداث، وقد يكون مفيداً القول، إن الشرذمة الحالية ما زالت تنهل من نبع الانقسام الإجمالي الفائت، وإن الوحدة حول ما هو مطلوب التوحد حوله، لم يكن يوماً سياسة بديهية لبنانية.

مقاومة الجبهة اللبنانية، ذهبت بجزء من الصيغة اللبنانية ومن الشراكة الوطنية ومن الميثاقية، ومقاومة «الوطنيين اللبنانيين» حصدت فشلاً سياسياً لاحقاً، أصاب ذات المقومات الداخلية بخسارة كبرى، والمقاومة الإسلامية التي وصل إليها تراث المقاومين الأوائل، ذهبت بالجزء الأهم من تعاقدات اللبنانيين وهدوء «أنساق» اجتماعهم… أما «القطر العربي السوري» الذي عدّل المعادلة الداخلية بقتل بشير الجميل، فقد تابع تعديلاته، وبالقتل دائماً، حتى جعل الاستقرار اللبناني واللحمة بين اللبنانيين، ورقة خفيفة في مهب سياسة أطماعه.