أجيال ثلاثة سمعت ببشير الجميل الرئيس الذي انتخب واغتيل، قسم من اللبنانيين رأى فيه انتصار لبنان، أمّا القسم الذي تحالف ضدّ لبنان فوصَمَه بأنه «جاء إلى الرئاسة على متن دبابة إسرائيلية» لا تنقسم آراء الناس إلا في الكبار، فإلى أجيال عرفت تناقضاً في المشاعر تجاه بشير، وإلى أجيال لم تعايش تجربته وصعوده ونجمه الذي هوى.. إلى أجيال قال لها ذووها: «كان بشير الحلم والمنقذ والبطل والأمل»، وأجيال أخرى قال لها ذووها: «كان بشير شرساً ميليشاوياً دموياً تسبب بمجازر كثيرة»، والذين عاصروه كانت مجازرهم أكثر بكثير… جيلي، عرف بشير الجميل، عايش تجربته، وكان بالنسبة لمنطقتي عدوّاً، إلا أنّ منطقتي كانت تخاف من شذاذ الآفاق في المنظمات الفلسطينية الفالتة، وكل الحرمات التي انتهكتها في شوارعنا، ولم تخف يوماً من بشير مثلما خافت هؤلاء، فما فعله بنا «الغريب» أكثر بكثير مما فعلناه بحقّ بعضنا البعض..
إلى هذه الأجيال الثلاثة التي لم تعرف بشير، هذه شهادتي: لبنان كان يستحقّ رئيساً للجمهورية كبشير الجميّل ليبني لنا دولة.. لا مزرعة، كما كان يردد دائماً.. يوماً ما سينصف بشير الجميّل أعداؤه قبل محبيه.. لأنه أول من قال لنا في مطلع شبابه: «لبنان أولاً»، واحتاج من اعتبروه خصماً إلى عقود من الزمن، إلى نصف قرن تقريباً لينتهوا من حيث بدأ بشير الجميل، إلى: «لبنان أولاً».. وللمناسبة كثيرون من مسلمي «المنطقة الغربيّة» كان بشير الجميّل بالنسبة لهم هو «الحلم اللبناني» و»رجل الدولة» الذي كان ليستطيع أن يبني لنا الجمهوريّة ويخلّصنا من المزرعة التي ما زالت قائمة، ولكن تغلّب «فريق المزرعة» بعد قتله بشير الجميّل الرئيس، الذي أصبح في عشرين يوماً «أمل لبنان»…
كمواطنة لبنانيّة عاشت تجربة بشير الجميّل من المنطقة الغربيّة، أقول: «عندما بدأت الحرب اللبنانية كان لي من العمر عشر سنوات، اليوم تجاوزت الثالثة والخمسين من عمري، راقبت كلّ فرقاء الحرب اللبنانية ومتاجرتهم بالشعب اللبناني ونقلهم البندقيّة من كتفِ جمال عبدالناصر إلى كتف أبو عمّار، إلى كتف النظام الأسدي، إلى الكتفِ الإيراني الآن، ولاحقاً إلى أي كتفٍ ستكون له الغلبة، وحدها «مقاومة» القوات اللبنانية لم تغيّر خطابها ولا بوصلتها ولا مسلّماتها، من بشير إلى سمير، لقد رفضت كلّ من ساوم على قضية لبنان ولفظتْ كلّ من نقّلَ بندقيته من كتفٍ إلى كتف بحسب مصالحه الشخصيّة… هذه هي «المقاومة اللبنانية الشرعيّة» وما تبقّى هو مجرّد ادّعاءات مهما تغيّرت أسماؤها وهي ليست أكثر من «أجندات» و»عمالة» لمحاور خارجيّة!!
كيف رأى بشير الجميل هذا الكيان اللبناني؟ لقد سبقنا برؤيته له وبعقود عندما حدد في «خطاب القسم»: «يجب أن يبقى مجتمعنا اللبناني أصيلاً حراً منفتحاً ومتعدداً. أصالته التراثية لا تعوق انطلاقته الكونيّة. انفتاحه الشمولي لا يطغى على جوهره الذاتي. حريّته المتنوعة لا تُسيء إلى حرمة نظامه. تعدديته الحضارية لا تؤثر على وحدته السياسية والكيانية. فلا أولوية في الولاء، ولا شركة في الولاء، ولا ولاء إلا للبنان» [خطاب القسم للرئيس بشير الجميل الذي حال الموت اغتيالاً بينه وبين أن يقسمه]..
وفي هذا الخطاب كتب بشير: «لا أقسم اليمين الدستوريّة أمامكم لتكونوا شهوداً فحسب، بل شركاء انتخبتموني، ساعدوني وإذا قضى النظام الديموقراطي البرلماني بأن يُؤدّى القسم عبر مجلس النواب، من دون سواه، فلكي يُلزمه قبل سواه مساعدة رئيس الدولة في اشتراع وإقرار كل ما يؤول إلى تنفيذ القسم القاضي باحترام دستور الأمة اللبنانية وقوانينها، وحفظ استقلال الوطن وسلامة أراضيه. لكن لا الدستور مصون، ولا القوانين مطبقة، لا الاستقلال كامل، ولا الأرض محررة، لا الوطن سيّد، ولا الأمّة موحدة، إنّ قسمي على روح غائب».. ما الذي تغيّر اليوم؟ ألم يزل القسم على روح غائب، وإن حضر الذين يقسمون بأبدانهم وأرواحهم، فنفوسهم عاجزة عن أن تكون بهمّة بشير وجرأته..
في الذكرى الخامسة والثلاثين على انتخاب الشيخ بشير الجميّل، نحن اليوم تماماً مثلما قال قبل واحد وأربعين عاماً في العام 1976 «قررنا البقاء في لبنان والعيش فيه مرفوعي الرأس».