خلال فترة الأعياد، وأنا خارج لبنان في بلد صغير نسبياً وشبيه بلبنان يدعى الأورغواي، حيث يلتقي كثيرٌ من سكّان أميركا الجنوبية لقضاء عطلة الصيف، لفتَ نظري حجم المتحدّرين من أصل لبناني، واستعيد الإحساس بانتماء بعض المغتربين خصوصاً منهم مغتربو أفريقيا والخليج إلى وطنهم الأمّ، حيث إنّهم يتوافدون في هذه الفترة لتمضيةِ الأعياد في لبنان، الوطن الذي لا ينسونه مهما كانت الظروف.
أسترجعُ تجربتي الشخصية وأنا ابنُ رجلٍ هاجرَ إلى أفريقيا وتركَ بلدَه بحثاً عن لقمة العيش الكريم والفرَص الأفضل، لذلك أعرف جيّداً في أعماقي أهمّية الارتباط بالوطن وأهمّية الحفاظ على جسر أساسيّ لإبقاء الجذور مترسّخةً في القلب، وهي حاجة إنسانية قبل كلّ شيء.
أمّا المتحدّرون القدامى، فلبنان أصبح بالنسبة إليهم «خبرية» سمعوا عنها من الأجداد، سمعوا عنها أخباراً حلوة وأخباراً مرّة. أخباراً عن جوع الحرب العالمية الأولى وأخباراً عن حرب سنة الحركة أي معارك الـ1860 التي يعتبرها بعض المؤرّخين شبيهة لحرب 1975.
لم يتعلّم شعبنا أنّ اقتتالنا على السماء أفقدَنا الأرض. اليوم اقتتالنا على السماء أخذ فنوناً جديدة وأعادَنا الى القرون الوسطى، وهو المسؤول عن تهجير اكثر من مليون لبناني منذ اندلاع حرب السبعينات.
وقد شرَّفني وزير الخارجية جبران باسيل بدعوتي الى مشاركته في جولة عمل الى افريقيا وأميركا الجنوبية كوني على اطّلاع اساسي في هذه البلدان انطلاقاً من خبرتي كإبن مهاجر الى غانا، وكوني ارتبطتُ بسيّدة أرجنتينية، وقد ساهمَت هذه الجولة في إعادة إحياء النقاط التي طالما عملتُ عليها انطلاقاً من عملي كرئيس لجمعية الصناعيين اللبنانيين وكوزير للسياحة اللبنانية.
فكنتُ أُدرك جيّداً قيمة هذه الثروة المنتشرة حول العالم والتي تشكّل قيمة اقتصادية أكثر أهمّية من النفط لو أحسنَ توظيفها وتطويرها. إنّ كلّ ما نقدّمه حتى الآن إلى مغتربينا هو مجموعة من الشعارات الوطنية العاطفية التي لا تعني المغترب الذي طوَّر فكرَه ليتماشى مع الجدوى الاقتصادية والإنتاجية، وهو على رغم ارتباطه العاطفي بلبنان إلّا أنه غير مستعدّ لأيّ مخاطرة ما لم يلمس جدّية حقيقية من المسؤولين اللبنانيين.
أهمية المتحدرين
السؤال الذي يطرح نفسَه خارج نطاق العواطف وبكلّ بساطه: أين مصلحة لبنان من هذا الكمّ الهائل من المتحدّرين؟
يستطيع لبنان أن يستفيد اقتصادياً أوّلاً على الصعيد السياحي. فنحن في حاجة ماسّة الى تنويع مصادر السياحة الى لبنان، كما نحتاج إلى أسواق جديدة لمنتجاتنا ومصادر جديدة للإيداعات في مصارفنا، وزبائن محتملة لبَيع المؤسسات الحكومية المسلوبة من الحيتان. وأرجوكم عدمَ نسيان البيرانا المعشعشة في كلّ هذه المؤسسات، تأكل منها حتى تحوّلت هياكل عظمية.
وخلال جولتي المذكورة، لمستُ حقيقة الجدّية التي يعمل بها الوزير باسيل لترجمةِ العلاقات الأخوية والعاطفية الى قيمة اقتصادية حقيقية يستفيد منها الطرفان، فقد كنتُ شاهداً على الجدّية الكبيرة في التواصل والخطط الموضوعة لنقل العمل الى مراحل متطورة، وما كنتُ أتوقّعه مجرّدَ زيارات ديبلوماسية أثبَت أنّه ورشات عمل مكثّفة لمعالجة التفاصيل كافة.
وقد صدِمتُ من الانتقادات السلبية لتحرّك الوزير باسيل والتي أتَت بمعظمها ممَّن كانوا من المفترض أن يحقّقوا نتائج إيجابية على صعيد العلاقة بالمغترَبات، إلّا أنّهم فشلوا في تحقيق نتائج إيجابية، وتحوّلوا سلبيةً طاغية، بحيث إنّهم لا يريدون تحقيقَ نتائج، وفي المقابل يهاجمون كلّ مَن يسعى أو يحاول بحدّه الأدنى تحقيقَ نتائج. وتمّ توجيه انتقادات عشوائية بأنّ المشاركين في الجولة كانوا من لون واحد وكانت الجولة بهدف مصالح شخصية وما إلى هناك من تركيبات بات يبرَع بها البعض.
وحيث إنّني لم أعتَد أن أقدّمَ المجاملات والتبجيلات، إلّا أنّ قول الحق يُحتّم عليّ في هذه الحالة إلقاءَ الضوء على حقيقة الجولة ومدى فعاليتها، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، حيث كان تركيز الاجتماعات على ترويج الاستهلاك اللبناني وإيجاد الحلول لمشاكل مزمِنة، مثل تسهيل الشحن بالإضافة الى درس توقيع اتفاقيات تجارة حرّة، وقد تمّ توقيع اتفاقية من أجل تسهيل الإفادة من فرَص الاستثمار والتجارة والتبادل التي تُوفّرها السوق المشتركة الاميركية الجنوبية (ماركوسور) التي تضمّ، الى جانب البرازيل والارجنتين، التشيلي اليورغواي والباراغواي، بالإضافة الى السوق الضخمة المتاخمة لها أو ما يُعرَف بمعاهدة التبادل الحر التي تجمع المكسيك، الولايات المتحدة وكندا.
إنّ حقّ كلّ متحدّر هو زيارة لبنان وتعَلُّم اللغة العربية، ليس فقط للأسباب العاطفية، بل لمصلحة المتحدّر من الاستفادة من الشبكة اللبنانية من الاتصالات والعلاقات في كلّ أصقاع العالم، كما حضّهم على المشاركة في المؤتمر الاغترابي في آذار السَنة المقبلة.
وللحقيقة، فإنّني أعتبرُ هذه الجولة من الجولات القلائل إضافةً إلى الجولة الافريقية والتي شاركتُ فيها أيضاً، التي تطرَّقت الى عمق المشاكل وطرحَت حلولاً وآليّة معالجة، وقد شهدت التزاماً من الطرفين لإيجاد أفضل الطرُق لتحويل القوّة الاغترابية دعماً اقتصادياً حقيقياً للبنان، وليس حصرها فقط بالنوستالجيا.
الملفِت للنظر أكثر من أيّ شيء آخر، الحياة المتجدّدة والفاعلة التي يعيشها السلك الديبلوماسي. للمرّة الأولى شعرتُ بأنّ لسِلكِنا الديبلوماسي عملاً خارجاً عن نطاق التشريفات، وهنا لا بدّ من الردّ على بعض الأصوات التي نحترم والتي رأت من كلّ الجولات التي قامت بها وزارة الخارجية مجرّد تسويق للنبيذ اللبناني. كنّا نتمنّى أن نرى اتفاقاً اقتصادياً مجدِياً في الحكومة التي كان لي شرفُ الخدمة فيها.
لبنانيو أميركا الجنوبية
وتملك القوّة الاغترابية في دوَل أميركا الجنوبية إمكانات حقيقية لم تستثمر بالطرُق الصحيحة، حيث كانت الجولات السابقة مجرّدةً من خطة عمل حقيقية تقنع المغتربين، حتى جولة رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا بقيَت في إطارها الديبلوماسي، ولم يتمّ أخذها إلى المرحلة الثانية.
وقد شملت الجولة زيارات إلى الأورغواي والأرجنتين والتشيلي، وتمَّ التركيز على حجم التبادل التجاري بين لبنان ودوَل جنوب أميركا، والذي ما زال يُعتبَر ضئيلا جداً.
وتمَّ التشاور في ضرورة تقوية العلاقات الثنائية وتسهيل تأشيرات الدخول، والعمل على تأمين خط طيران مباشر بين لبنان وتلك البلدان، كما تمَّ طرح فكرة المدرسة اللبنانية وأهمّية اللغة العربية، ليس فقط من الباب العاطفي بل من باب المصالح والأهمّية للمغترب اللبناني الأصل بأن يكون صلةَ الوصل بين بلده والعالم العربي.
وكان الحِرص الدائم على ترويج الصورة الحقيقية للبنان بعيداً عن الصوَر السلبية التي أطلقت أخيراً، والإضاءة على الفرَص الاستثمارية العديدة للبنان والتي ما زال الترويج لها تحت المستوى المطلوب.
بالفعل إنّ التفكير الاقتصادي الصحيح اليوم يتطلّب منّا جميعاً التعاون والابتعاد عن المناكفات ودعم الوزير باسيل في خططه لخلق تواصلٍ حقيقي مع المغتربين، تواصلٍ منتج وبنّاء يؤمّن للبنان استثمارات إضافية وأسواق إضافية لمنتجاته وبضائعه.
لقد حان الوقت للابتعاد عن الصوَر النمطية في التعامل مع الاغتراب، وتركيز العمل لخَلق لوبي لبناني حقيقي حول العالم، ولن يتمّ ذلك إذا استمرّينا بسياسة الكيديات وذرّ الرماد في العيون، فالتجربة علّمَتنا حتى اليوم أنّنا خسرنا العديد من الفرَص بسبب السياسة التي كانت معتمَدة.