لطالما أدهشني المثل الشعبي الإيراني عن «الذبح بالقطنة»، والذي يشي بتركيبة سيكولوجية تحرّض على إنهاء أو تصفية الآخر (العدو) ببطء وحيلة شديدين من دون أن تسيل دماء الضحية إلا قطرة قطرة، ومن دون أن يرفّ للذبّاح جفن أو يرتجف له قلب. أما أن يصير ذاك القول المتداول بين العامة نهجاً سياسياً للدولة فهذا شأن آخر علينا أن نقف على حيثياته ونحلّل تداعياته على دول الجوار الإقليمي التي تمتد إليها الأذرع الإيرانية خلسة وعلانية، وتعدّ العدة لتصفية كل من يعرقل مشروعها الإمبراطوري التوسعي حتى من كان حليفاً حال تنتهي صلاحياته أو قدرته على تغذية سعير الهجمة الجديدة.
تـــغطي طهران ســـيــــــاسةَ مـــلاليـــها واستراتيجياتهم في المنطقة بغطاء عقائدي ديني يجيّش العواطف والانفعالات المذهبية لمواطنيها بهدف كسب التأييد الداخلي للهدف المعلن من تدخّلها في دول الجوار، خصوصاً سورية راهناً، والذي يتمثّل في حماية المزارات الدينية والعتبات المقدّسة، من دون تحديد حمايتها ممن، ولمَ، في هذا التوقيت، بعد أن كانت منذ مئات السنين قبلة أهل السنة ووجهة نذورهم وقرّة عقيدتهم قبل الشيعة، ولم تزل. أذكرُ كيف كانت عائلتي الدمشقية تقدّم النذور والأضاحي للسيدة زينب في مقامها القدسي قرب دمشق، وكانت أمي تحرص على أن تحملني بين ذراعيها لترفع جسدي الطفل إلى أعلى أسوار المقام لأتلمَسه بيدي الصغيرتين استزادةً للبركة.
الهاجس التوسعي الإيراني في سورية، التي تعتبر حجر الزاوية بعد العراق لرسم حدود الدولة الدينية الكبرى لإيران، كان قد تَكرّس منذ الثمانينات من خلال إرساليات ثقافية للتبشير المذهبي وأخرى للحجيج الديني. أما الحضور الأمني فأتى على هيئة تنسيق عسكري ومخابراتي أداته حزب الله في لبنان، حيث كانت دمشق الشريان الحيوي الذي يغذّيه بالمال والسلاح الإيراني المصدر.
ومنذ استقدام مستشارين عسكريين وأمنيين من طهران لدعم الجيش النظامي في قمعه حركة التحرّر السورية الكبرى في 2011، إلى تاريخ التقاط صور لطائرات «شاهد 129» الإيرانية من غير طيّار وهي تقصف مواقع للمعارضة في جنوب حلب في شباط (فبراير) 2016، كما ورد في تقرير موثق بالصور أعدّته مجلة «فورن بوليسي» الأميركية، مروراً بتصريح رجل الدين الإيراني مهدي طائب، قائلاً: «لو خسرنا سورية لن يمكن أن نحتفظ بطهران، لكن لو خسرنا إقليم خوزستان (الأهواز) فسنستعيده ما دمنا نحتفظ بسورية»، وصولاً إلى مقتل السيد ذو الفقار قائد ميليشيا حزب الله في الغوطة الشرقية بانفجار غامض المصدر، تتصعّد السيطرة الإيرانية على مفاصل القرار في قصر المهاجرين، بحيث صار الأسد مجرّد ناطق رسمي لخطط طهران العسكرية والأمنية في دمشق والقلمون وحلب، وصارت أطراف النظام السوري، من أعلى رأسه المضمّد بالعمامة الإيرانية إلى قاعدته المضمّخة بالدم السوري المسفوك، مجرّد أدوات لتنفيذ هاجس المتشدّدين من ملالي الحوزات بعد أن تحـوّل حــرس الثــورة الإيراني «الباسيج» إلى ماركة مسجلة لها فروعها في المنطقة تتّجه في الوقت الذي تختاره لإخماد ثورات التحرّر وحركات التغيير في دول الجوار، بالرصاص الحيّ، على غرار قمعها فصول الثورة الخضراء القصيرة العمر في طهران على مشهد من دول العالم المتحضر.
ولا يخفى على قارئ ما وراء سطور الحدث أنه في الوقت الذي تظهر طهران على أنها الحامي والنصير لبشار الأسد ومن نجا من منظومة حكمه المتهاوي، يُعدّ آخرون العدّة هناك لإسقاط هذا الحلف الموقوت والعابر للمصالح الإقليمية حال تتمكّن القوات الإيرانية المتواجدة على الأراضي السورية، بجناحيها المدني المخابراتي والعسكري الميليشيوي، من مفاتيح التحكّم بالدوائر السياسية الضيقة التي تحيط بالأسد في قصره، وبضوء أخضر أممي، إثر عودتها المظفّرة إلى حظيرة المجتمع الدولي بغطاء ودعم أميركيين. حينها فقط سيصل خيط القطن المشدود إلى رقبة بشار الأسد بعد أن جزّ رقبة السلم الأهلي والتسامح الديني بين أبناء بلده.
فهل ستسمح الدول العربية الجارة بسقوط متوالية أحجار الدومينو عاصمة إثر عاصمة بيد الامبراطورية الفارسية العائدة إلى الحياة برئة نووية؟ وهل سيكون بقدرة دول مجلس التعاون الخليجي أن تشكّل درعاً واقياً في وجه هذا المدّ الجارف؟ وما هو الدرس العربي والدولي المستخلص من الصمت الدولي حيال غزو جحافل الميليشيات المذهبية المتعدّدة الجنسيات غيرَ دولة عربية، وسيطرتها على مفاصل الحياة السياسية فيها، وتوجيهها بما يخدم تمدّد نفوذها؟