مهما قيل في الخلافات التي تحكّمت بتأليف الحكومة الجديدة، مع حلحلة العقد التي برزت أمام ولادتها بعد مضي شهر و3 أيام على تكليف الدكتور حسان دياب تأليفها، فإن المستوى الذي بلغه إنكار الأزمة بموازاة المزايدة على الانتفاضة الشعبية وادعاء تبنّي مطالبها قبل أن تندلع شرارتها، من قبل أحزاب في الحكم، ربما يكون قد أرضى أصحاب هذا الادعاء، لكن مفعوله ضاعف غياب الصدقية عند هذا الفريق السياسي المتمسك بالسلطة حتى الثمالة.
هذا الفريق لم يكتف بقول الشيء وفعل عكسه في ما يخص الانتفاضة، بل مارس الأسلوب نفسه في عملية تأليف الحكومة متذاكياً على سائر القوى السياسية ولا سيما حلفائه، بأنه لا يطمح إلى الحصول على مكاسب من وزرائها وحقائبها ولضمان مصالحه التي سعى إلى كسبها من تلك الحقائب، فيما يعرف من عملوا على التأليف وحلحلة العقد أن المطالب التوزيرية فاقت المعقول. يكفي الاستماع إلى ما قاله النائب السابق سليمان فرنجية أمس من أجل التأكد من حقيقة سعي رئيس “التيار الوطني الحر” لوضع اليد على وزارات دسمة، وعلى التحكم بقرار الحكومة عبر مناورات ملتوية كانت صالحة في السابق، حين كان يستفيد منها الحليف الأقوى، أي “حزب الله”، في تأليف الحكومتين السابقتين برئاسة سعد الحريري من أجل الحد من دوره أو تشذيب أدوار حلفاء زعيم “المستقبل” المفترضين فيهما.
كانت لمناورات باسيل وإصراره على تضخيم حجم حزبه ودور فريق الرئاسة في التركيبة الحكومية وظيفة في السابق، حين كان مطلوباً تحجيم “المستقبل” ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع و رئيس”الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، وشهد البلد جولات في هذا المجال. لكن هذه الوظيفة انتفت مع انكفاء الحريري عن تولي المهمة، ومع انسحاب “القوات” من التسوية التي عقدتها مع الرئيس ميشال عون بعد انسحاب “التيار الحر” من تفاهم معراب، وبعد قرار “الاشتراكي” عدم الانضمام إلى الحكومة، حتى لو كان لتسمية وزير درزي غير حزبي.
أربك طموح “التيار الحر” للاستئثار بمفاصل القرار الحكومي الحليف القوي، الذي ما زال يتلمس طرق اشتراكه في الرد على الضربة التي تلقتها إيران باغتيال قاسم سليماني، ويؤرقه أن يضطر لإقحام لبنان في عملية الرد، ويقلقه كيف يمكن أن يتجنب الخسائر الكبرى التي سيحمّله اللبنانيون مسؤوليتها، إذا كان لا بد من أن يكون شريكاً عملياً في تفاعلات الصراع الأميركي الإيراني في هذه المرحلة. فهو يتلقى التبعات السياسية والاقتصادية لهذه الشراكة حتى الآن، عبر العقوبات الأميركية التي ينتظر أن تتصاعد، وشبه القطيعة السياسية العربية مع لبنان نتيجة قبول فرقاء “التسوية” الشهيرة، التي أنتجت رئاسة العماد ميشال عون بالمساومة والتعايش مع “الحزب” تحت سقف هذه الرئاسة. ولكل هذه العوامل دور في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها لبنان، وقد تأخذ اقتصاده إلى الانهيار.ما قاله فرنجية أمس ليس جديداً على قناعاته التي توصل إليها منذ السنة الأولى للعهد الرئاسي، بإخضاع مقتضيات الحكم لتحويل باسيل إلى وريث عون بالرئاسة. الجديد أنه تشدد في رفض المساحة التي سعى باسيل إلى احتلالها في حكومة اللون الواحد، برضى وتأييد من “حزب الله” هذه المرة. فالحزب يستريب من تحضير باسيل لتصعيد معارك الرئاسة المبكرة حتى في حكومة اللون الواحد، ما يضعفها سلفاً.
بدا الخارجون من التركيبة الحاكمة والتسوية الشهيرة وفي مقدمهم الحريري، أكثر واقعية. فالأخير أدرك صعوبة الإنقاذ الاقتصادي مع العهد وانسحب، وقرر إعطاء فرصة المئة يوم للحكومة لعلها تتمكن من تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، بدل معارضتها من البداية وكذلك جنبلاط الذي سيتعامل بإيجابية معها إذا سرّعت الإصلاحات وضبطت الهدر… إلا إذا كان هناك من سيوجه خطواتها نحو ممارسات كيدية باسم الشعارات الإصلاحية.