في انتظار قراره الرد على أمر واقع فرضه عليه ليل الأربعاء تأجيل تسريح الضبّاط الثلاثة الكبار، يصبح احتكام الرئيس ميشال عون إلى الشارع أقل أهمية، وهو على أبواب استحقاق يماثله تأثيراً على زعامته وداخل البيت: انتخابات تيّاره
أضحى تأجيل تسريح الضبّاط الثلاثة الكبار أمراً واقعاً فُرض على الرئيس ميشال عون. على أن أخصامه يجدون أنهم تجاوزوا عقبة كان رئيس تكتل التغيير والإصلاح يتذرع بها لتعطيل جلسات مجلس الوزراء، والحؤول دون اتخاذه قرارات ما لم يتصدّر جدول الأعمال بند التعيينات العسكرية. بانطواء هذه الصفحة لسنة ـ ما لم يُنتخب حتى ذلك الوقت رئيس للجمهورية ـ لا أسباب مباشرة تحول دون اتخاذ مجلس الوزراء قراراته.
يعتقد هؤلاء أيضاً بأن عون يراكم، منذ الشغور الرئاسي على الأقل، خسائر سياسية تلقي بوزرها على مقدرته في التأثير حالياً كما في ما بعد، بدءاً بتعذّر التوافق على انتخابه رئيساً وإصراره برغم ذلك على المضي في الترشح، مروراً بإخفاقه في إرساء تفاهم سياسي واسع النطاق مع تيّار المستقبل، وصولاً إلى تعويم خلافه مع الرئيس نبيه بري في ملفات لم تعد تقتصر على النفط وانعقاد مجلس النواب، بل توزّعت على كمّ إضافي من النزاعات وصلت إلى التمديد للبرلمان وآلية عمل مجلس الوزراء وأحدثها وليس آخرها التعيينات العسكرية. عجز عن إقناع برّي بتفسير المادة 24 من الدستور المتعلقة بالمناصفة في مقاعد البرلمان، ولم يجاره أحد من الخصوم والحلفاء في اقتراح إجراء استفتاء شعبي على انتخاب الرئيس. لا أحد معه في تحريك الشارع، ولا في أولوية الانتخابات النيابية على الاستحقاق الرئاسي حتى.
في الساعات المنصرمة لم يتردد بري في القول، وهو يراقب ردود الفعل الأخيرة لعون وتكتله: إذا كان يريد انتخابات نيابية، فهناك الآن قانون 2008. إذا كان يريد قانون انتخاب جديداً فلينزل إلى مجلس النواب. إذا كان يريد انتخاب الرئيس فلينزل إلى المجلس أيضاً.
لم يُوفّق عون في إمرار قانون جديد للإنتخاب بعدما خسر معركة الطعن في التمديد لولاية مجلس النواب عام 2014، ثم تخليه عن إقتراح اللقاء الأرثوذكسي. لم يُعطَ له تعيين قائد جديد للجيش يحلّ فيه صهره قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز، ولم ينتزع من حليفه الرئيسي حزب الله دعماً جدّياً غير مشروط في معركتي التعيينات العسكرية ومواجهة حكومة الرئيس تمام سلام، وخصوصاً حيال آلية ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية بما يفرض عُرف منح الفريق المسيحي الذي يمثله فيتو التعطيل على القرارات. بل لم تثمر مصالحته مع حزب القوات اللبنانية سوى وقف الحملات الإعلامية المتبادلة. في أيّ من الخلافات المتشعبة تلك مع خصومه، نأت القوات اللبنانية بنفسها عن اتخاذ موقف مباشر يلاقي عون، ما خلا أمراً يتيماً هو مقاطعة جلسات مجلس النواب. بيد أنها لم تكف عن إنتقاد معرقلي إنتخاب رئيس الجمهورية، وفي ذلك إشارة صريحة إليه وإلى حليفه حزب الله. ليس الأفرقاء المسلمون كرئيسي المجلس والحكومة وتيّار المستقبل والنائب وليد جنبلاط مَن وقف ضده فحسب. بل ناوأه الأفرقاء المسيحيون في حملة إستعادة الحقوق المسيحية، وأنكروها عليه، كحزب الكتائب والنواب والوزراء المسيحيين المستقلين.
هكذا، في أقل من سنة ونصف سنة على شغور الرئاسة، يجد عون نفسه محاطاً بخصوم أشداء لا يتزحزحون، وحلفاء يترددون في مجاراته.
يذهب خصوم عون إلى المزيد من الإستنتاج: يقتضي أن يواجه الشهر المقبل إستحقاقاً من نوع آخر لا يمت بصلة إلى أيّ ممّا يجري الآن. بل يضعه في إحراج حيال البيت الداخلي للتيار الوطني الحرّ، وهو على أهبة إجراء انتخابات يريد عون خلافته في رئاسته لصهره الوزير جبران باسيل. لا يقل إهتمامه بهذا الإنتقال عن إهتمام الرئيس أمين الجميل بخلافة نجله النائب سامي الجميّل له، ولا اهتمام جنبلاط بخلافة نجله تيمور له في زعامة المختارة، ولا كذلك حال النائب سليمان فرنجيه مع نجله طوني، والنائب طلال أرسلان مع نجله مجيد. هكذا تكرّ السبحة على الجميع.
واقع الأمر أن عون يجبه طرازاً مختلفاً من الخلافة، وهو يتنكّب زعامة مسيحية لم يسبق أن حازها زعماء موارنة تاريخيون كالرئيس كميل شمعون الشيخ بيار الجميّل والعميد ريمون إده. ما حازه في انتخابات 2005 و2009 لم يُعطَ إيّاه الزعماء الثلاثة هؤلاء مجتمعين في انتخابات 1968، وهو السيطرة على مقاعد دوائر جبل لبنان الشمالي وصولاً إلى جزء من جبل لبنان الجنوبي وجزين. كان على كل من أولئك في انتخابات 1968 أن يفقد مقعداً في لائحة مسقطه على الأقل، وأن يعوّل على التحالف للفوز وقد إكتشف كل منهم أن حليفه هو خصمه الأول. على نحو نقيض منهم، لم يعثر عون في دورتي الإقتراع سوى على منافسين ضعفاء، فاجتاح المقاعد والأحزاب في آن واحد. بذلك بدا حالة إستثنائية في زعامة مسيحية غير مسبوقة. ها هو اليوم ـ على غرار أولئك تماماً ـ يؤمن إنتقالاً لتاريخه وسمعته السياسية أكثر منه يورث زعامته المميزة.
لا يقل إستحقاق البيت الداخلي وطأة. يجبه خلافات إنبثقت من العائلة: إبن شقيقته النائب الآن عون وابن شقيقه نعيم عون رأسا حربة في مواجهة صهره. باتت المواجهة للجنرال مباشرة بعدما حسم خيار تأييده باسيل الذي ألقى تمسّك عمّه به، منذ تسوية الدوحة، بثقله ليس على تأليف أربع حكومات مذ ذاك مع الرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام فحسب، بل على مشاركة عون نفسه في الحكم: مرة لتوزيره، وطوراً إصراراً على حقيبة الإتصالات ثم حقيبة الطاقة ثم حقيبة الخارجية. نجح في كل المرات تلك في فرض إرادته وحصته في الحكومة الجديدة، وعلى رأسها توزير باسيل.
في ضوء إخفاقه في تعيين قائد فوج المغاوير قائداً للجيش، راح خصومه يتحدثون عن غنم باسيل وغرم روكز. لا يتساويان في قطف ثمار المصاهرة: الأول يربح منها، والآخر يدفع ثمنها.