المشنوق يتصدّى وتساؤلات عن ضوء أخضر خليجي
بدا محيّراً النفي المتأخر، عبر «مصادر المستقبل»، بدلاً من بيان رسميّ واضح وحازم، لاتصال الرئيس سعد الحريري بالوزير جبران باسيل. فخبر اتصال الحريري بباسيل، وتأكيد تمسّكه بالتسوية الرئاسية، نزل كالصاعقة على رؤوس اللبنانيين، وتحديداً على أهلّ السنّة.
فإذا صحّ الاتصال، الذي انتظرت «مصادر المستقبل» حتى الثانية ظهراً لنفيه، لا بدّ من طرح الأسئلة التالية: ما هو الهوان الذي يدفع رئيس الحكومة إلى الاتصال بوزير كال ما كاله من تهجّمات على السنّة واللبنانيين عموماً، من خلال استحضار لغة مذهبية؟ وما هو الهوان الذي يجعل رئيساً للحكومة يبدو ضعيفاً أمام وزير، في حين كلّ موازين القوى الإقليمية والدولية تغيّرت في الأشهر الأخيرة في غير صالح المحور الذي ينتمي إليه باسيل.
يبقى أنّ نفي الاتصال، ولو متأخّراً، يحفظ ما بقي من ماء الوجه في رئاسة الحكومة، إلا أنّه لم يكن مقنعاً، ولا كان كافياً. فهل بتنا نرجو ألا يكون خبر الاتصال حقيقياً؟ بدل أن ننتظر ردّاً من الرئيس الحريري، على مستوى الإهانة؟
باسيل «الفرعون»
لم يتراجع جبران باسيل قيد أنملة عن كلامه الطائفيّ الصادر عنه في البقاع، بل إنه أعاد صياغة منظومته الهجومية على مواقع أهل السنة ودورهم في لبنان، خلال مؤتمره السبت في بعبدا، محاولاً تقديم صورته كملاكٍ سياسي،ومسارعاً إلى إتهام معارضيه والمتصدين لحملاته العدوانية بأنهم المتضررون من مكافحة الفساد، واضعاً نفسه في موقع الحاكم والقاضي الممسك بدفاتر المحاسبة والمنزّه عن الشبهات.
قدّم باسيل عرضاً بهلوانياً من اللعب على المفردات والمصطلحات من دون أن يتخلى عن أي طرحٍ من طروحاته الطائفية، مع إصراره على تفريغ رئاسة الحكومة من مكامن القوة الدستورية والوطنية، والتحكّم بمفاصل الأمن والقضاء، والأخطر من كل هذا إستبعاده إتفاق الطائف من المعادلة وإحياؤه لفكرة «الميثاقية» المولودة من رحم المارونية السياسية، كبديل عن الإلتزام بالدستور وبوثيقة الوفاق الوطني.
فباسيل يدعي أنه لا يريد إعادة المارونية السياسية، لكنه يريد القرار في قصر بعبدا ويصرّ على إستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية . يريد الرئيس سعد الحريري قوياً لكنه ينتقده لموقفه في القمة العربية ويضرب صورته وهيبته من خلال إجتياحه جلسات الحكومة، وهو لم يطرح إقالة اللواء عماد عثمان، لكنه يعتبر «المعلومات غير شرعية»، ويريد تحجيم عثمان وتعريته من كل نفوذه الأمني ويستخدم القضاء في معركته الطائشة.
ألاعيب باسيل
حاول باسيل تصوير نفسه كضحية عندما إعتبر أنه يتعرض لإغتيال معنوي وسياسي بسبب حجم الإعتراض والإنتقاد الناشئ ضد سياساته بعد أن فشل في إستعمال القمع والتسلّط ضد معارضيه فإختار اللجوء إلى لغة المظلومية.
واللافت تركيز باسيل في حديثه على أنه لم يقل الكلام «في الإعلام» مما يعني أنه قاله بعيداً عن الكاميرات، لكن عدد من المشاركين في تلك الجلسة البقاعية يؤكدون أن لديهم تسجيلات سيقومون بنشرها إذا إقتضت الضرورة.
وما يحاول باسيل إخفاءه وتغطيته بكلامه، تكشفه الممارسة اليومية . فإحياء المارونية السياسية وإسقاط السنية السياسية لا يحصل بإنقلابٍ مباشر، بل بإنقلابٍ متدرّج، يتمّ بالإستيلاء على صلاحيات رئاسة الحكومة بفرض أعرافٍ تضرب الدستور، ليس أقلها حصر جلسات التعيينات والقرارات الهامة في قصر بعبدا، وترؤس العماد عون للحكومة وإجلاس الرئيس الحريري عن يمينه.. والتحكم بجدول أعمال مجلس الوزراء وغيرها مما أعلن إعتراضه عليه رؤساء الحكومات السابقون مراراً وتكراراً.
المارونية السياسية والميثاقية
وليس مفاجئاً قول باسيل ان «العماد عون ليس ابن المارونية السياسية. نحن نتحدث بالميثاقية ونجاهر بها ونؤمن بها وحققنا فيها حقوقا ورددنا كرامة وقمنا بشراكة وسنظل نقاتل من اجلها».
فالواقع أن باسيل، خلال كلمته في بعبدا، لم يتطرق إلى إتفاق الطائف، وتعامل مع الدستور كمرجعيةٍ هامشيّة، وأعلى من شأن «الميثاقية» وهي فكرة ومصطلحٌ خرج من رحم المارونية السياسية وكان أداة تعطيل الشراكة الحقيقية والتعمية على الحقوق الدستورية.
قال باسيل إن العماد عون ليس إبن المارونية السياسية، لكنه يتناسى أنه رفض إتفاق الطائف وخاض حرباً طاحنة لإسقاطه، وعمل على فرض أعرافٍ تضرب الدستور وتبتز اللبنانيين منذ إتفاق الدوحة ثم تعطيل الدولة لأكثر من سنتين حتى إنتخابه رئيساً للجمهورية، ليصبح الحديث عن إستعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية العبارة الأخرى لإعادة المارونية السياسية إلى الحكم.
ضرب التسوية من القواعد
سخـّف باسيل من شأن التسوية مع الرئيس الحريري معتبراً أنها تسوية بسيطة، لكنها لا تعني السكوت على الفساد، فوضعَ الحريري في دائرة الإتهام بحماية الفاسدين، وضرَبَ التسوية من قواعدها لأنه قزّمها وأهان الحريري من خلال إستعلائه عليه ووضع نفسه في المستوى الأعلى وفي موقع المحاسِب للفاسدين من خلال تهديده بأن «الحفاظ على التفاهم لا يعني الحفاظ على الفساد في لبنان، وهناك محميون وأتى هذا التفاهم لرفع الغطاء عنهم».
ديكور الحضور الإسلامي في التيار العوني
وإذ فاخر باسيل بانضمام 4 آلاف منتسب مسلم إلى صفوف تياره مؤخراً، وبغض النظر عن مدى الدقة في الأرقام، إلا أنّه يتعامل معهم كديكور لتغطية حركته المذهبية ليس أكثر. ولو أنه صدق في حفاظه على العيش المشترك، ما كان ليخوض «حرباً سياسية» شعواء من أجل قانون إنتخابٍ يمنع المسلمين من انتخاب المسيحيين ويمنع المسيحيين من انتخاب المسلمين. فهذا بالفعل تقسيمٌ سياسيٌ ونفسي شديد الخطورة على الكيان لأنه أنتج ما نراه اليوم من تهديدٍ للإستقرار السياسي والاجتماعي في لبنان، وعودة لمناخات الحروب الأهلية.
ردود «المستقبل» الضعيفة
بدا واضحاً أنّ الرئيس الحريري يتجنـّب التدخل لإعادة التوازن إلى الشكل والمضمون على حدٍ سواء. فاقتصرت الردود من جانبه على الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، الذي ردّ بتغريدة على باسيل وفتح معركة على تويتر مع الوزير الياس بوصعب. وذلك في ظلّ صمتٍ كاملٍ من المنظومة المستقبلية. وهنا ينبغي الإشارة إلى موقفٍ تأخر أربعة أيام من النائب محمد كبارة، الذي يصنف نفسه حليفاً للحريري وليس منضوياً تحت عباءة فريقه. وهناك تغريدات إنتقادية صادرة عن اللواء أشرف ريفي، الذي لا يمكن إعتباره أبداً جزءاً من القرار المستقبلي. فالرئيس الحريري لم يخض المواجهة التي يستحقها كلام باسيل الخطر.
المشنوق: الردّ المتفاعل مع الشارع
شكّل موقف المشنوق الصادر من دار الفتوى بعد لقائه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان والذي تصدّى فيه لجموح باسيل خط دفاع متقدّم شفى غليل الشارع البيروتي والسني وأحرج سعد الحريري.
وفي ظل الترقب لتداعيات عواصف باسيل الطائفية، ظهر النائب نهاد المشنوق في دار الفتوى متصدياً للعدوان السياسي الذي يشنه باسيل».
وزّع المشنوق رسائله في إتجاهات عدة، سنية ووطنية، ولا شكّ أنها وصلت إلى من يعنيهم الأمر وأخذت مداها بالتفاعل في المقرات السياسية.
بصراحة ووضوح دعا المشنوق بعد لقائه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في دار الفتوى، إلى «إعادة النظر بالتحالف السياسي، وإلا فنحن نعرض البلد ونعرض الذين تمثلهم هذه الدار، دار الفتوى، لأزمة لن نعرف إلى أين ستوصل».
وفي رسالة موجهة إلى رئيس الحكومة سعد الحريري قال المشنوق: «هناك أيضا تماد في السكوت عن هذا الكلام، داعيا إلى «وقف الانهيار الذي نراه في مسألة توزان الصلاحيات، مذكراً بأن رئاسة الحكومة هي مركز توزيع السلطات في لبنان، وليست مجلس إدارة هلوسات أي فريق سياسي».
ورسم المشنوق لمواقفه بعداً عربياً لافتاً، لأنه حدّد موقعه المحليّ بناء على إلتزامه مساندة العرب في وجه إيران، مشيداً بالتوازن الذي تحمله وثيقة مكة بين رغبة أغلبية المسلمين بالسلام.
تقييم الموقف
من الواضح أن جبران ياسيل ماضٍ في فرض نفسه مرشحاً حاكماً للجمهورية، وأن حرص الرئيس الحريري على التسوية من منطلق التضحية أصبح منتهي الصلاحية لأن شريكه جبران ينسفها نسفاً.
في المقابل، تفاعل موقفُ المشنوق في المقرات السياسية، ويتوقع أن يُبنى عليه حراك سياسي، يترجم بتلاقي المتضررين من طغيان باسيل في لحظة محلية وإقليمية حرجة، خاصة أن الرئيس بري والدكتور جعجع والنائب جنبلاط يخوضون معاركهم منفردين ضد ممارسات باسيل وهناك إعتقاد سائد بأن الوقت قد حان لتشكيل جبهة حماية إتفاق الطائف. فهل يحمل المشنوق ضوءاً أخضر خليجياً للوقوف في وجه الحملات التي تطال مصالح أهل السنة وتهدّد وحدة البلد؟
دفاعاً عن الحريري وليس تآمراً عليه:
بذكاء وحنكة، حاول باسيل الربط بين مواقف الرئيس فؤاد السنيورة والنائب نهاد المشنوق والوزير السابق أشرف ريفي، لتصوير الإعتراضات وكأنها مؤامرة على شخص الرئيس الحريري. بينما الحقيقة هي أنّ الثلاثة تختلف مواقفهم قبل التسوية وبعدها، وهي إن تشابهت، فلا تتطابق، ولا تأتي من منطلقات واحدة.
بل إنّ ما يصدر عن السنيورة والمشنوق وريفي هو تعبير دقيق عن غضب الشارع السني، بمختلف أطيافه، وعن غليانٍ واضح داخل بيئة المستقبل نفسها، وبين النخب السنية على اختلافها، وبين الناشطين على مواقع التواصل. ولم يقتصر الغضب على الناشطين السنّة بل توسّع ليشمل مروحة كبيرة من مناصر «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الإشتراكي»، وغيرهم من قدامى 14 آذار، من شيعة مستقلّين ومسيحيين ودروز. وكان لافتاً عودة النائب السابق بطرس حرب إلى واجهة الأحداث من بوابة رفض كلام باسيل، إذ غرّد قائلا: «يا ليت من يتاجر بالمارونية أو السنيّة السياسية يملك الحد الأدنى من الثقافة السياسية . إنه عصر الجهل التاريخ السياسي المطبق وانعدام الرؤية والتخبّط واستغلال السلطة لتحقيق المكاسب والثروات. معهم دفن لبنان العظيم وقيمه وتراثه»، آملاً «ألا يدفع المسيحيون مجدداً ثمن غبائهم السياسي»، ومطالباً «تجّار الغرائز الطائفية، المستغلّين لقلق المسيحيين على المصير، والناتج عن سياسة الوصاية السورية الرامية الى إضعاف الوجود المسيحي الفاعل والحر، أن يوقفوا مزايداتهم وولدناتهم، ليتعرفوا الى تاريخ لبنان وحكمة آباء الاستقلال المستندة على وطنية المسيحيين ووعيهم وثقافتهم. عندما أذكر غباءهم، أعني غباء تجّار الطائفية وليس غباء المسيحيين ،لا سمح الله».
كلّ هذا أحرج المستقبليين وأجبر الأمين العام للتيار أحمد الحريري والوزيرة ريا الحسن إلى الدخول على خط السجال، وهذا ما أفشل مسعى باسيل لتحويل المشكلة إلى خلاف داخل البيئة السنية.
وبينما يسعى أحمد الحريري لسدّ فراغ الغياب السياسي لرئيس الحكومة وللتغطية على «الكوما» التي يغرق فيها نواب التيار، يبرز دور النائب نهاد المشنوق الذي عاد إلى المشهد بقوّة للدفاع عن مقام رئاسة الحكومة بوجه الإستهداف الذي يتعرض له، طارحاً ضرورة إعادة النظر بالتسوية، وداعياً أركان إتفاق الطائف، وتحديداً الرئيس نبيه بري، والدكتور سمير جعجع ووليد جنبلاط، إلى التحرك لحماية الدستور والصيغة اللبنانية المهدّدة بجموح الصهر القاتل.
أسئلة برسم الأسابيع المقبلة
كلّ هذا يدفعنا إلى التساؤل:
هل الموقف المطلوب / المحجوب من الرئيس الحريري، يطلقه المشنوق علناً؟
هل إنتهت صلاحية التسوية على وقع التوترات السياسية ؟ وهل بدأ الإستطلاع بالنيران لإنهاء مفاعيل التسوية؟
هل موقف المشنوق هو لقطع الطريق على ما يبدو أنه تسوية مؤكدة / محتملة لإيصال جبران إلى رئاسة الجمهورية. وهل يمكن للرئيس الحريري الإستمرار في تجاهل الكارثة التي وصل إليها البلد بسبب الشراكة غير المباركة مع «صديقه جبران»؟
ثمة من يقول إن المشكلة لم تكن في التسوية، بل في إختلال التوازن فيها نتيجة أداء الرئيس الحريري وسماحه باستباحة صلاحياته، فيما ليس مطلوباً منه كلّ هذه التنازلات وكلّ هذا السكوت عن الضيم.
لكن السؤال الأكبر: هل يمكن الإستمرار في تسوية لم تأتِ سوى بالخسائر لأهل الطائف وباتت تداعياتها تهدّد الصيغة والكيان؟!