قرّر الوزير جبران باسيل أن يضع نفسه في «بوز المدفع»، وتطوع للإعلان بنفسه وعلى الملأ عن وجوب خفض معاشات الموظفين «وإلّا لن يبقى معاش لأحد». أخذ باسيل على عاتقه مهمة تمهيد الارض امام القرار الصعب المحتمل، على رغم من انّ الدولة ككل هي المعنية باتخاذه، إذا قررت أن تعتمد مثل هذا الخيار الذي سيكون موجِعاً لموظفي القطاع العام.
يدرك باسيل انّ كلامه غير شعبي في ظل الازمة المعيشية التي تتطلب مزيداً من الزيادات على الرواتب وليس خفضها، وهو يعلم ايضاً انّ ما طرحه ترك وقعاً سيّئاً على الناس ومن ضمنهم جمهور «التيار الوطني الحر»، خصوصاً أنّ السلوك الإجمالي للطبقة السياسية لا يؤهّلها لاقتراح «وصفات علاجية» من النوع المقترح، وهي المتورطة أصلاً في كل انواع الفساد والهدر.
ليس خافياً على رئيس «التيار الوطني الحر» انّ السلطة في لبنان تفتقر الى الصدقية التي تسمح لها أن تطلب من المواطنين المساهمة من لحمهم الحيّ في التقشف، بينما لا تزال مظاهر الاستهتار والبذخ تطبع أداء كثير من المسؤولين، ولا تزال الخزينة نازفة و»مثقوبة» بفعل مسار طويل من الإنفاق العبثي واستسهال سرقة المال العام.
لكن، ومع ذلك كله، «اقتحم» باسيل المحرمات، ودعا موظفي القطاع العام الى تقبل احتمال تخفيض معاشاتهم لمواجهة التحدي الاقتصادي – المالي وتطويق مفاعيله، تحت طائلة انعدام القدرة على تسديدها لهم لاحقاً. كيف حسبها باسيل، ولماذا اتّخذ هذا الموقف؟
كان باسيل قد استبق طرحه الأخير بإطلاق إشارات متدرّجة الى اقتراب لحظة الحقيقة، سواء عبر تأكيده في اكثر من مناسبة ضرورة اتخاذ اجراءات موجعة لمنع الانهيار، او من خلال رفضه أخيراً اعطاء الاساتذة الدرجات الست، معتبراً انّ القرار الذي اتُخذ على هذا الصعيد هو شعبوي ويفتقر الى المسؤولية.
تقر مصادر باسيل أنّ مصارحته الموظفين في إمكان خفض معاشاتهم لا تخدمه شعبياً، لكنها تلفت في الوقت نفسه الى انّ رئيس «التيار» فضّل الصدق على الشعبوية، في لحظة لم تعد تتحمل المناورة والهروب الى الامام بعدما أصبحت الازمة الاقتصادية – المالية مسألة حياة او موت، «وبالتالي كان لا بد له من أن يتحلّى بالجرأة في تحديد الداء والدواء».
وتحذّر المصادر من أنه لم يعد مقبولاً الاستمرار في الكذب على اللبنانيين او تخديرهم، مستغربة كيف أنّ البعض يعطون دروساً في التقشف وضرورة احترام مقتضيات مؤتمر «سيدر» ثم يتصرفون عكس ما ينادون به، على قاعدة «دق بغيري وما تدق فيّي».
وتوضح المصادر انّ توقيت كلام باسيل الصريح مرتبط بقرب انطلاق مناقشة مشروع الموازنة في مجلس الوزراء، مشيرة الى انّ كل ما يُحكى عن تقشف وشد أحزمة وإصلاحات ومكافحة للفساد لا قيمة عملية له ما لم يُترجم الى اجراءات عملانية عبر موازنة واقعية تنطوي على التزامات واضحة وتحاكي التحدّيات الداهمة بعيداً من التنظير.
وتنبّه مصادر باسيل الى انّ المزايدات لا تحقق المعالجات المطلوبة، «وعلى المزايدين أن يتحمّلوا مسؤولياتهم ويكفّوا عن اعتماد الشعبوية في مقاربة الوضع الصعب الذي يواجهه لبنان».
وتنفي المصادر أن يكون باسيل قد استسهل تقليص مكتسبات او حقوق فئة من اللبنانيين، مشيرة الى انّ القاعدة الاوسع لـ «التيار الحر» تضم أصلاً شريحة واسعة من الطبقة الوسطى والعسكريين المتقاعدين وبالتالي كيف لباسيل أن يستهدف جمهوره، لافتة الى انّ ما طرحه يأتي في إطار سلة كاملة تتوزع فيها التضحيات والواجبات، «ولمن يحسبه على البورجوازية او يتهّمه بمسايرة مصالحها، نلفته الى انّ الفريق الذي ينتمي اليه باسيل هو الذي انتقد صراحة السياسات النقدية التي يتبعها مصرف لبنان وتخدم المصارف، ومن المفيد في هذا المجال العودة الى المؤتمر الصحافي لوزير الاقتصاد منصور بطيش وما حمله من مقاربات شُجاعة».
وتشدّد مصادر رئيس «التيار» على أنّ أيّ تخفيض في رواتب الموظفين يجب أن يكون جزءاً من كل، وإلّا يصبح بلا جدوى، لافتة الى»أنّ هذا الإجراء ينبغي أن يترافق مع مكافحة الفساد وضبط الهدر ورفع مستوى الايرادات وتخفيض الإنفاق وتصويب السياسات النقدية المتبعة، وذلك على قاعدة تلازم المسارات وتكاملها، بحيث لا تقتصر التضحيات على فئة واحدة».
وتشير المصادر الى انّ موقف باسيل الاخير سبقته وواكبته إجراءات عملية على خط مكافحة الفساد والهدر، سواء في ما يتعلق بالتوقيفات والملاحقات على مستوى ملفات عدة او في ما يخص إقرار خطة الكهرباء، الامر الذي يُثبت انّ احتمال خفض الرواتب، إذا حُسم، لن يكون إجراءً معزولاً او منفصلاً عن استراتيجية إصلاحية وتقشفية متكاملة يجب أن تشمل كل قطاعات الدولة.