في ذكرى السابع من آب، بدت قيادة “التيار الوطني الحر” مزهوة بالمدّ البشري الذي انفلش في “جورة” الإنشاءات حيث سيقام المبنى المركزي للحزب. بدت المناسبة كمن يصيب عصفورين بحجر واحد: تنبيه لمن أخذته فوضى الأحداث بأن “التيار” لا يزال القوة الضاربة عند المسيحيين، وتذكير لمن قد تأخذه الحماسة بعيداً عشية الاستحقاق الحزبي الرئاسي، بأنّ الوزير جبران باسيل لا يزال الرقم 1 في الحزب.
ولكن مقابل هذا الاعتداد بالنفس، هناك من يحاجج قيادة “التيار” في قدراتها التحشيدية: الحزب الذي يتحدث عن أكثر من 35 ألف منتسب، ويطمح إلى حجز كراس لخمسين ألف برتقالي، يعجز عن استدعاء أكثر من ثلاثة آلاف منتسب، وأقل، إلى مناسبة هي الأحب على قلب العونيين والأكثر التصاقاً بوجدانهم وذاكرتهم!
إذاً، لا يزال تطور “التيار الوطني الحر” التنظيمي، كما حضوره، موضع التباس ووجهة نظر غير محسومة. على مشارف أيام من انتهاء ولاية باسيل الأولى واستعداده لخوض تجربة “التمديد الشرعي” بفعل إعادة انتخابه، يستعيد النقاش حيويته حول صلابة بنية الحزب ونواته الداخلية، بفعل المتغيّرات والتبدّلات التي طرأت عليه منذ دخوله نادي الأحزاب.
يوم الجمعة المقبل، يقفل باب الترشّح للانتخابات الحزبية التي تقوم على أساس لائحة مقفلة، حيث يفترض مبدئياً فوز باسيل بالتزكية بانتظار من سيختاره لموقعي النيابة، في وقت يقول فيه إنّه يميل إلى تسمية غير مسيحي وشخصية حزبية، بينما تشير المعلومات إلى أنّ أسهم الوزير الياس بوصعب مرتفعة جداً.
هكذا، يستعد “التيار” لدخول الحقبة الثانية من العهد الباسيلي الذي يسجّل عليه أنّه حوّل الحالة النضالية إلى مقاعد احتياط ينتظر أصحابها، فرصهم لأقرب منصب أو موقع!
من دون مساحيق التجميل
وفق نظرة معترضة على المسار، طلّة “التيار” مشرقة وبهية توحي بأنه حزب متراص كحجارة الدومينو، عابر للاقليم وليس للوطن فقط. لكن الغوص في العمق يكشف المستور ويزيل المساحيق التجميلية:
– هو نظام رئاسي لا صوت يعلو فيه فوق صوت الرئيس، حتى المجلس السياسي صار أشبه بديوانية دردشة، يبحث الجالسون على طاولته عن المعطيات والمعلومات خارج جدران “التيار” بسبب رفض رئيس الحزب اطلاعهم على حقائق الأمور.
– يعاني “التيار” من زحمة لجان تنظيمية تتصارع في ما بينها. كأن يكون هناك لجنة تعبئة تعمل على بلوغ سقف الـ 50 ألف بطاقة، ولجنة “تفعيل” مركزية تهدف إلى استقطاب القدامى من المنكفئين. واللجنتان لم تنجحا في تحقيق الهدف المتمثل بـ 50 ألف بطاقة. مع العلم أنّ العمل التعبوي في الحزب هو موضع انتقاد أصلاً، اذ يسجّل على “التيار” أنّه فقد أصلاً نواته الصلبة وباتت معظم وجوهه الأمامية كما الخلفية “غريبة”. كما أنّ زحمة اللجان هذه، ليست سوى “بارافان” لتغطية الفشل التنظيمي خصوصاً وأنّ شريحة كبيرة من المنتسبين هم من حملة البطاقات التنفيعية الذين جرى اقناعهم بطلب البطاقة تسهيلاً لأشغالهم.
– على الرغم من مركزية القرار والسلطة، ثمة عوارض فوضى تجلّت في أكثر من مناسبة وعبرت عن نفسها من خلال الاختلافات العلنية في الرأي بين المجموعات الحزبية ازاء بعض المسائل، منها مثلاً كيفية التعاطي مع مطران بيروت الياس عودة.
– باتت نشاطات الحزب محصورة بثلاث مناسبات: 13 تشرين الأول، 7 آب، و14 آذار، حيث تتولى اللجان المركزية الضغط على الحزبيين للمشاركة في هذه الاحتفالات حتى لو طالت الاتصالات، “بالغلط”، بعض المطرودين. أما بقية السنة فيكون الاتكال على الـ Hiking، حيث يعتقد البعض أنّ احتكاك رئيس الحزب مع الناس في المناطق التي يقصدها من شأنه استقطاب المؤيدين.
وبينما قام “التيار” في نشأته على النشاطات التثقيفية والميدانية التي يشارك فيها الكبار والصغار، فإن ثقافته السياسية باتت اليوم موضع تهكّم لدرجة أنّ إحدى الهيئات المناطقية لا تعرف حقيقة أحداث السابع من آب وأسبابها كما تبيّن من إحدى منشوراتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في تلك المناسبة.
ويعود هذا التبلّد إلى الاشكالات التي سببتها الانتخابات البلدية التي خاضها “التيار” بشراسة متناسياً شظاياها القاتلة، ما تسبب بشلل العديد من الهيئات، ومنها هيئات كبيرة.
– الانتخابات المناطقية التي يفاخر “التيار” في تنظيمها تحولت إلى لعبة تركيب بازل: وحدها مجالس الأقضية منتخبة مع ما تبقى لها من صلاحيات، فيما سيف التعيين يقتصّ من هيئات الأقضية التي تعتبر مفتاح القواعد البرتقالية، ويثير الحساسيات بين الحزبيين. وهنا تفنّن رئيس الحزب في سياسة وضع اليدّ على الحزب من خلال محاصرة أصحاب النفوذ وإقصاء البعض وتحجيم البعض الآخر، ومن خلال إبعاد منسقي أقضية محسوبين على نواب حزبيين مؤثرين، كما حصل مثلاً في جزين وجبيل. وكل ذلك تحضيراً لمعركة 2020.
– الماكينة الانتخابية لم تكن نموذجية لا بل كادت تكون الأسوأ وقد توقف عملها عند العاشرة ليلاً ما اضطرها الى الاستعانة بماكينات المرشحين المستقلين، ولم تتمكن من مواجهة الانقسامات التي حلّت بـ “التيار” بسبب خلافات المرشحين وحروبهم الداخلية على الأصوات التفضيلية. وما حصل في زحلة لا يزال حتى اللحظة موضع سجال بسبب اعتراض بعض الحزبيين على انحياز القيادة لمصلحة مجموعة خالفت النظام الداخلي والتعاميم ولم تصدر بحقهم أي اجراءات عقابية.
تقدّم مستمر
ولكن ليس لهذه الجردة أي تأثير يذكر على نقاشات قياديين في الحزب. وفق هؤلاء لا يمكن اسقاط تجربة “التيار” زمن نشأته على حركته اليوم. كل شيء تغيّر، بما فيه الظروف، التاريخ، تطلعات الناس، وحتى التحديات صارت مختلفة. الحالة النضالية طوّرت نفسها مع تطور كل شيء من حولها: “نحن لم نتغير، تغيّر الأسلوب بتغير الموقع”.
برأيهم خاض “التيار” تجارب كثيرة صعبة كانت أشبه باستحالات: استحالة خروج السوريين، عودة ميشال عون، دخول السلطة، الرئاسة، تحقيق المناصفة والانصاف… لكنه عبرها بنجاح، بدليل النتائج التي حققها خلال الانتخابات النيابية الأخيرة حيث كان سيف النسبية مصلتاً على رقاب الأحزاب، ومنها “التيار”.
ويعود السبب الرئيس في تحقيق هذا الانتصار، برأي هؤلاء، إلى الهندسة الانتخابية الذكية التي قادها رئيس الحزب والتي ساهمت في تحقيق هذه النتائج. ويشيرون إلى أنّ “التيار” هو صاحب أكبر تكتل نيابي، كما أنّ كتلته الحزبية توسّعت في الحجم، وهذا ما يثبت حسن الادارة، مؤكدين أنّ “التيار” حقق تقدماً جماهيرياً على عكس ما تفيد حملات التحريض التي تساق ضدّه.
يرفض “الباسيليون” الاتهام بالتراجع الجماهيري ويقولون: لقد تخطينا الـ 30 ألف بطاقة حزبية، وهذا دليل تقدم وليس تراجعاً، رغم الاستنزاف الذي نتكبّده بسبب وجودنا في السلطة لأنّ الناس تفضل المعارضة والتمرد والثورة ولا تقنع بما تقدمه السلطة، ومع ذلك نتوسع في حضورنا. ولو أنّ الخيار الشعبي ليس دائماً على حق، وملف النازحين نموذجاً. ولهذا لا يمكن الركون دائماً الى معيار الرأي العام، يجب التضحية أحيانا لمصلحة القضية”.
عملياً، يدخل “التيار” الحقبة الثانية من “العهد الباسيلي” وكأنه يقطع حبل السرّة، ولو التنظيمية، مع المؤسس. فعلاً يقول قيادي عوني إنّ “التيار أخذ قرار الفصل عن المؤسس عن سابق تصوّر تعبيراً عن مرحلة نضوج لا بدّ من خوضها، ولو أن باسيل فيه الكثير من الجوانب المشتركة على المستوى الشخصي مع العماد ميشال عون. واجبنا تحقيق هذا الفصل ولو أننا وجدانياً لا نزال عونيين، كما كثير من الأحزاب الفرنسية على سبيل المثال التي لا تزال ديغولية الهوى”.
يتهكمون على الاتهامات بأن باسيل يختزل “التيار” بالقول: “إذا كان بمقدور جبران باسيل أنّ يختزل هذا “التيار” الممتد على طول الوطن، فيعني أنه من خارج مواصفات البشر”، مشيرين إلى أنّ الحزب يتكل على قيادته، هيكليته التنظيمية، ومؤسساته التي تتكامل مع بعضها البعض، لتقدم نموذجاً حزبياً رائداً، مؤكدين أنّ “التوسّع مناطقي، أفقي وعمودي، سواء على مستوى حضور المرأة أو الشباب أو حتى حزبيين من خارج الطوائف المسيحية. أما الحضور الأفقي فيتجلى من خلال المؤسسات الحزبية، الكشافة، وحتى اللجان الاستشارية المتخصصة بملفات حيوية واقتصادية ومالية…”.
بالنتيجة يقول القيادي الحزبي: “العهد الأول لجبران باسيل كان ناجحاً وقد تمكّن من تحقيق سلّة انجازات: قانون انتخابات، أكبر كتلة نيابية، استعادة الحضور المسيحي في الدولة… في المقابل، هو الحزب الوحيد الذي يخضع لحكم القاعدة: انتخابات على مستوى الهيئات الوسطية أي مجالس الأقضية، والرئاسة ولاختيار المرشحين. وهي آلية استثنائية وحده “التيار” يعتمدها.
وفق القيادي نفسه، جوهر الحزب لا يزال هو نفسه، لكن توقعات الناس صارت كبيرة و”تحملنا مسؤولية كبيرة وهذا ما يزيدنا عزماً وارادة”.