التفكير البديهي للوزير جبران باسيل الاحتفاظ بموقع رئاسة الجمهورية وأن يكون خليفة الرئيس ميشال عون، وهذا من ثوابت العهد ومسلماته، ولكنه لا يخوض اليوم معركة وصوله إلى بعبدا.
إستدعى انتخاب عون رئيساً أن ينتقل من التموضع الفئوي إلى التموضع الوطني واستطراداً الوسطي، خصوصاً بعدما أدرك انّ تموضعه الانقسامي حال دون انتخابه وأدخل البلاد في فراغ مفتوح ومن دون أفق زمني، فأطلق مقولة الدور- الجسر بين اللبنانيين فاتحاً طريق بعبدا من معراب مروراً بـ”بيت الوسط” وكليمنصو، وبالتالي التفكير المنطقي والبديهي يقول أن ينطلق باسيل من المكان الذي وصل او انتهى إليه عون، وليس من المكان الذي بدأ منه، اي الانقسامي، واستمرّ إلى حين قرر إعادة النظر بهذا التموضع.
وهذا التفكير نفسه يقول إنه كان في إمكان باسيل أن يركّز كل جهده على إنجاح العهد، لأنه بمقدار ما ينجح هذا العهد بمقدار ما يعزّز باسيل فرصة خلافته من منطلق انّ الناس يتطلّعون الى بناء دولة توفّر لهم الأمان والبحبوحة والكرامة الوطنية وفي يومياتهم المعيوشة، فيما الأزمات الاقتصادية التي دخلها لبنان تكاد تكون غير مسبوقة، والأسوأ انّ دور الجسر الذي وُعد به عون يعمل باسيل عكسه عن طريق الصدام الدائم مع القوى السياسية مجتمعة او منفردة، وبالتالي الشعور العام انّ هذا الفريق يظنّ نفسه وكأنه ما زال في المعارضة، وبدلاً من أن يلعب دور الحاضن لجميع القوى إنجاحاً للعهد باستناده إلى ركائز حزبية شعبية قوية يعمل المستحيل لتنفيرها ومواجهتها وتحجيمها.
ولا تخلو الحياة السياسية من خلافات وتباينات في وجهات النظر، وهذا الأمر طبيعي في أيّ نظام ديموقراطي، بل النقاش أكثر من مطلوب وصحّي من أجل تقديم الأفضل، والنقاش الحاصل حول الموازنة وملفات أخرى هو الأول من نوعه منذ سنوات، ما يعني انتقال الاهتمام أكثر فأكثر إلى الملفات المتصلة ببناء الدولة، ولا يجب النظر إلى النصف الفارغ من الكوب، لأن هناك إيجابيات يجب تسليط الضوء عليها، ولكنّ المشكلة التي تواجهها القوى السياسية على اختلافها مع باسيل أنه لا يحصر خلافه في المواضيع المختلف حولها، فإذا اصطدم مع الرئيس سعد الحريري في مرحلة تأليف الحكومة يذهب مباشرة إلى المطالبة بإعادة النظر في صلاحيات الرئيس المكلف والطائفة السنّية، وإذا اصطدم مع الرئيس نبيه بري يستخدم لغة “تكسير الرؤوس” واستذكار حقبة الوصاية السورية، وإذا اصطدم مع رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط يفتح ملفَّ حرب الجبل ويستذكر 1860 و1983، وإذا اصطدم مع “القوات اللبنانية” يفتح ملفات الحرب الأهلية، وهكذا دواليك…
فاداء باسيل يجعله في صدام مع القوى الأساسية ليس في اليوميات السياسية وهو الأمر الطبيعي، إنما في مواضيع جوهرية وقيمية ومبدئية تتعلق بالدستور والعيش معاً وطيّ صفحة الماضي، خصوصاً أنّ أحد ركائز الاستقرار يكمن في الابتعاد عن القضايا التي يجب أن تكون خارج النقاش الصراعي من قبيل الدستور ومرحلة الحرب، فهذه المواضيع لا تناقش سوى في حقبات الاستقرار الثابت والمستدام، إلّا إذا كان المطلوب إبقاء الجماعات والقوى السياسية في حال من القلق على وجودها ودورها ومصيرها.
ولا يفتح باسيل هذه السجالات التي لا علاقة لها بالسياسة عن عبث أو من قبيل المصادفة، فهو يتقصّد التوتير السياسي الذي لا يمكن تحقيقه سوى عن طريق القضايا الحساسة التي تحرِّك الغرائز، لأنّ جلّ ما يريده ليس النقاش الهادئ والعقلاني، إنما النقاش الصاخب الذي يثير الرأي العام من قبيل ملفات الحرب والصلاحيات وغيرهما، وأما السؤال الذي يطرح نفسه: هل يُعقَل لمرشح رئاسي أن يصطدم بهذه الحدّية مع القوى السياسية على اختلافها وهو يدرك انّ التواصل معه من فوق التزاماً بالتسوية السياسية يختلف عن رأي الناس من تحت مسيحياً وسنّياً ودرزياً وشيعياً؟ وألا يُفترض بباسيل لو كانت أولويّته رئاسية أن يبدِّل في أسلوبه الاستفزازي والصدامي؟
ومن هذا المنطلق أولوية باسيل اليوم ليست رئاسية، إنما التمهيد للرئاسة، وتذكيراً انّ عون خاض المسار نفسه طويلاً لجهة المواجهة الحادة قبل أن يتموضع وسطياً، فضلاً عن أنّ باسيل في حاجة ماسة الى هذا المسار لأربعة اعتبارات أساسية:
ـ الاعتبار الأول، يدرك باسيل انّ رئاسة الجمهورية ليست معروضة عليه على طبق من فضة لا في حال اتّبع سياسة المهادنة او المواجهة، فالمسألة معقّدة وترتبط بعوامل خارجية وأخرى داخلية، فضلاً عن انه يتّكئ على تجربة عون الذي لم يصل إلى قصر بعبدا إلّا “بشقّ النفس”، ولا تفيد بشيء دراسة خطواته وعلاقاته وارتباطاته، لأنّ الاستحقاق الرئاسي ابن لحظته.
ـ الاعتبار الثاني، يفتقد باسيل إلى المشروعية المسيحية التاريخية التي كانت سابقاً لدى الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، واليوم محصورة بالرئيس عون والدكتور سمير جعجع، وبالتالي هو في حاجة الى شرعية معيّنة، وإذا كانت الشرعيات السابقة مردّها إلى البارودة والحرب والمسار النضالي الطويل، فإنّ باسيل في حاجة الى انتزاع شرعية ولو لم تكن من الطبيعة نفسها عن طريق إثبات قدرته في المواجهات وفي الوقوف ضد القوى السياسية مجتمعة ومنفردة لكي يثبت نفسه ووضعه، وهذا ما يفسّر اهتمامه الزائد بالحركة وإعطاء الانطباع أنه يحتل المشهدية السياسية ولو كانت نتائجها سلبية عليه، إنما الاساس بالنسبة إليه اليوم هو هذه الصورة أنّ باسيل موجود في كل تفصيل في الحياة السياسية، وأنه قادر على مواجهة تيار”المستقبل” وحركة “أمل” و”الإشتراكي” وغيرهم من أجل انتزاع الشرعية المسيحية.
ـ الاعتبار الثالث، يخشى باسيل انه بعد رحيل عون بعد عمر طويل بإذن الله أن يتفكّك “التيار الوطني الحر” وأن يتراجع شعبياً شأنه شأن حزب “الكتائب” بعد رحيل المؤسس أو حزب “الوطنيين الأحرار” كذلك غيرهما كثير من الأحزاب التي فقدت حيثيتها بعد رحيل مؤسسيها، وبالتالي همُّه في هذه المرحلة هو أن ينتزع المشروعية داخل تياره، وأن يثبت انه الأقوى والوريث الأوحد القادر على الحفاظ على إرث التيار من دون ايّ منازع وبجدارة، وهذا ما يفسّر حاجته إلى مواجهات من طبيعة طائفية وماضوية لأنّ قوته من قوة تياره.
ـ الاعتبار الرابع، يريد باسيل أن يحسم السباق لمصلحته داخل الفريق السياسي الذي ينتمي إليه، بمعنى أن يكرّر تجربة عون الذي كان المرشح الأوحد لـ”حزب الله”، وبالتالي يسعى عن طريق الحراك السياسي المكثّف الداخلي والخارجي لإقناع الحزب بأن لا بديل منه، وانّ مصلحة الحزب تكمن بدعمه بلا تردد إن ربطاً بحيثيته، أو لناحية احتلاله المشهد السياسي، وليس مهمّاً التباين المحسوب الذي يتقصّده باسيل طالما انه لا يخطئ استراتيجياً في تغطية سلاح الحزب ودوره، بل هذا التباين يخدم الحزب بإيصال المرشح الذي يضمن استمرارَ سلاحه.
فلكل هذه الاعتبارات مجتمعة وغيرها أولوية باسيل اليوم ليست رئاسية، إنما التمهيد للرئاسة عن طريق انتزاع شرعية مسيحية وأخرى عونية، كذلك انتزاع ثقة “حزب الله” بأنه المرشح الأوحد القادر على خلافة الرئيس عون، وبعد أن يحقق ذلك لكل حادث حديث…