IMLebanon

عطش البصرة والصراع على السلطة يخنقان العراق

 

ربما يمر العراق حالياً في أخطر مرحة في تاريخه، فالأزمات تعصف بالدولة من كل حدب وصوب بل أصبحت تهدد تماسكها. فمن أزمة الثقة بالنظام السياسي التي دفعت معظم العراقيين إلى مقاطعة الانتخابات، ثم القيام باحتجاجات واسعة، إلى أزمة الكهرباء المتفاقمة، إلى أزمة تشكيل الحكومة التي تزداد تعقيداً مع تصاعد الاحتراب بين المحورين المتنافسين على تشكيل الكتلة الأكبر، إلى أزمة عطش البصرة وانتشار التلوث وتصاعد الملوحة نتيجة قطع إيران المياه عن شط العرب، وإهمال الحكومات المتعاقبة قطاع المياه والخدمات.

 

 

أزمة العطش في البصرة معقدة بسبب تداخل المسببات وتعلقها بجهات متعددة، عراقية وإقليمية وعالمية، وكل من يحاول تبسيط المشكلة وإلقاء اللوم على جهة واحدة إنما يجانب الحقيقة. محطات الإسالة وأنابيب نقل المياه في البصرة متهالكة بسبب قدمها، فبعضها أنشئ قبل ثمانين عاماً، وكان يجب أن يستبدل منذ سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي، لكن انشغال العراق في الحروب ثم تكبيله بحصار دولي خانق لإثني عشر عاماً، قد حالا دون تجديد شبكات المياه أو نصب محطات حديثة. وهذا الجانب من المشكلة يتعلق بالإدارة المحلية للمياه في البصرة التابعة لوزارة البلديات، التي أدمجت أخيراً بوزارة الإعمار والإسكان، ونُقل معظم صلاحياتها إلى حكومة البصرة. كان على وزارة البلديات وحكومة البصرة أن تضعا حلولاً ناجعة لهذه المشكلة الخطيرة قبل تفاقمها، وهنا يكمن تقصير يقترب من الإجرام.

 

الجانب الثاني من المشكلة يتعلق بوزارة الموارد المائية التي تنظم استهلاك المياه وتوزيعها بين الزراعة والاستهلاك البشري. فبعد تناقص المياه العذبة في البصرة في التسعينات، قامت الوزارة بحفر قناة تمتد من منطقة (البدعة) في محافظة الناصرية إلى منطقة (أبو صخير) شمال البصرة، لتنتقل منه المياه إلى محطات الإسالة المقامة على شط العرب.

 

لكن تهالك الأنابيب الناقلة قد تسبب في تسرب معظم المياه قبل وصولها إلى محطات الإسالة البعيدة عن مصدر المياه، ما دفع مديرية ماء البصرة إلى الإستعاضة عن مياه مشروع البدعة العذبة، بمياه شط العرب المالحة والملوثة وهنا تكمن المشكلة التي تسببت في تسمم السكان. لا توجد شحة في المياه العذبة من مشروع البدعة، فمعظم المصادر تؤكد أن هناك كميات تكفي لثلاثة ملايين إنسان بمقدار مئتي لتر للفرد الواحد يومياً.

 

والجانب الثالث للأزمة هو الجانب الإقليمي، فمياه العراق كلها تأتي من تركيا وإيران، وبعضها يمر عبر سورية، وبسبب تزايد استهلاك هذه البلدان المتزايد للمياه، بدأت تتجاوز على حصة العراق المائية. تركيا وسورية أنشأتا السدود على الفرات منذ السبعينات، وقد تسبب ذلك في تناقص تدفق مياه النهر إلى ما دون النصف. ثم أقامت تركيا سد «أليسو» العملاق على نهر دجلة الذي سيتسبب في تفاقم شحة المياه في العراق مستقبلاً عندما يبدأ الأتراك استخدامه.

 

إيران أقامت السدود على نهري الكارون والكرخة وإعادت مياههما إلى أراضيها، ومنعت وصول أي كمية من المياه إلى العراق، وهذا هو السبب المباشر لزيادة نسبة المياه الملوثة في شط العرب وتصاعد الملوحة القادمة من الخليج. تناقص المياه العذبة في البصرة ألحق أضراراً جسيمة بالأشجار والزراعة والأحياء المائية، وأخيراً خلق أزمة مياه الشرب الحالية.

 

أما الجانب العالمي فهو تزايد استخدام المياه خلال نصف القرن الماضي في كل دول العالم بسبب تزايد عدد السكان، وهناك الآن اتفاقات أو مفاوضات بين الدول المتشاطئة على الأنهار العالمية لتقاسم المياه بينها.

 

الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بغياب المسؤولية وانعدام الكفاءة أو كليهما، هو لماذا لم تتنبأ الحكومات المتعاقبة، الاتحادية والمحلية، بهذه الأزمة وتفكر بمعالجات ناجعة تنقذ السكان من العطش؟ هل من المعقول أن البصرة، ميناء العراق الوحيد، ومدينة النفط والنخيل والفن والأدب، وتلتقي فيها أربعة أنهار عملاقة، هي دجلة والفرات والكارون والكرخة، تعاني من نقص مياه الشرب؟ الأزمة ليست مفاجئة وأهالي البصرة يشتكون من تدني جودة المياه منذ عقود. إنها حقاً كارثة إنسانية لا بد من التحقيق في أسبابها ومحاسبة المقصرين.

 

المحزن في الأمر هو أن الحكومة البريطانية تنبأت بحصول الأزمة وقدمت قرضاً بقيمة 16 مليار دولار لإنشاء محطات لتحلية المياه، ونصحت بأن تنفذ المشروع شركة «بايوتر» البريطانية المتخصصة. لكن وزارة البلديات تلكأت في قبول العرض وظلت تماطل حول ربط القرض بشركة «بايوتر»، علماً أن هذه الشركة معروفة بخبرتها وقدراتها الكبيرة على تنفيذ هذه المشاريع. يبدو أن هناك مسؤولين أرادوا شركات أخرى أن تنفذ المشروع لأسباب ليست خافية.

 

وبينما البصرة تعطش ويصاب مواطنوها بالتسمم ويتظاهر الالآف منهم نتيجة لشظف العيش، تحتدم المعركة بين الأحزاب السياسية حول تشكيل الكتلة الأكبر التي ستشكل الحكومة المقبلة! المحور المدعوم إيرانياً ينشط في تقديم الوعود للأحزاب من أجل استقطابها للانضمام إليه. أما المحور المدعوم أميركياً، فهو الآخر يسعى جاهداً إلى تشكيل هذه الكتلة، والعراقيون الآن واقعون بين ضغوط السليمانيْن: الجنرال قاسم سليماني والسفير دوغلاس سليمان! لا يبدو أن أحداً مكترث لمأساة البصرة، أو الاحتجاجات الصاخبة فيها التي تواجهها الشرطة بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع. يبدو أن السياسيين العراقيين يعيشون في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وبدلاً من أن يتخلوا عن طموحاتهم لمراكمة المزيد من المال والنفوذ، فإنهم يتصرفون وكأنه ليس هناك أي مشكلة في العراق! هؤلاء غير جديرين بالقيادة لذلك يجب على العراقيين البحث عن بدائل.

 

إن فشل الأحزاب الحالية وعدم اكتراثها بأزمة العطش والتلوث والتسمم وتصاعد الملوحة في البصرة، إضافة إلى تدهور الخدمات الأساسية والأوضاع المعاشية في عموم العراق، تستدعي أن تتحلى هذه الأحزاب بمقدار من المسؤولية وتتخلى عن (حقها) في تشكيل الحكومة وتتجه نحو تشكيل حكومة من الخبراء غير السياسيين كي تنتشل البلد من مشكلاته المستعصية. لن تنجح أي حكومة تشكلها الأحزاب الحالية في إيجاد حل لمشكلات العراق، لأنها ستنشغل في جني المكاسب لأعضائها وقادتها، فقد حصل هذا سابقا وسيحصل مستقبلا. الوضع الحالي يتطلب تضحيات جساما، وأقل تضحية تقدمها الأحزاب هي النأي بالنفس عن المشاركة في الحكومة المقبلة والسعي إلى تشكيل حكومة خبراء مستقلة.