لم يكتفِ رئيس “التيار الوطني الحر” برمي أكثر من ورقة محروقة أصلاً، يعتقد أنه يمتلكها، بل ساهم في حرق أوراق أخرى يفترض الواقع السياسي أنها في يد العهد، على جري عادته.
فضلاً عن أن معظم الوسط السياسي لم يصدق أنه غادر الوهم بأنه مرشح جدي لرئاسة الجمهورية، وهو الوهم الذي كان يتلبّسه ويحكم سلوكه السياسي في السنوات الماضية، فإن أياً من القوى السياسية لم يتعامل مع إعلانه أنه لا يريد الرئاسة بل يريد الإصلاح على أنه صادق في هذا الإعلان. النتيجة المنطقية أنه مثلما كان وهم ترشيحه للرئاسة ورقة هالكة فإن تخليه عن هذا الطموح ورقة ميتة إذا كان يعتقد بأنه يظهر بمظهر المتعفف أمام أطراف محلية وخارجية ورأي عام ومحازبين في “التيار الحر” نفسه ضاقوا جميعاً ذرعاً بمناورات دونكيشوتية تسببت في تراجع شعبية “التيار” والرئاسة.
أما من الأوراق التي ساهم في حرقها في مؤتمره الصحافي الأخير فهي الهجوم تارة صراحة وأخرى تلميحات على قوى سياسية يأمل الرئيس ميشال عون بأن تشارك في اللقاء الوطني الذي دعا إليه يوم الخميس المقبل تحت عنوان التوافق على تحصين لبنان بالوحدة الوطنية. فمن أين يمكن للقوى المترددة في حضور هذا اللقاء الذي بات مؤكداً أنه سيكون ناقصاً ومبتوراً بسبب خشية من سيتغيبون عنه من أن يُستغل من أجل إعادة تعويم باسيل. فمن عادة الرئيس عون أن يدعو الفرقاء الذين يعقد معهم تفاهمات مبدئية إلى متابعة الحوار والمناقشات “مع جبران”. وهو ما بات غير قابل للاستجابة له إكراماً لموقع الرئاسة لتيسير أمور الدولة والمؤسسات كما كان يحصل في السابق، بعدما اكتشف معظم قادة هذه القوى أن مسايرة عون في ذلك أعطت مفعولاً عكسياً وسلبياً. فباسيل استخدم إحالة عون الفرقاء عليه لممارسة شبق السلطة وشراهة الكسب المصلحي واستضعافهم باسم الرئاسة الأولى، بدلاً من تيسير أمورها في الحكم. الفرقاء السياسيون هؤلاء حلت عندهم “التوبة” حيال التفاهم مع باسيل، مكان التساهل مع ما يطلبه الرئيس منهم، نظراً إلى أن الصهر تفنن في غدرهم أو في التراجع عن أي اتفاق معهم أو في الاستقواء بالرئاسة وتحالفه مع “حزب الله”، من أجل فرض شروطه عليهم. وبإمكان كل من زعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع (وغيرهما) أن يسرد جردة تبدأ ولا تنتهي في هذا السياق، إلى درجة أن كلاً منهما عبر على طريقته، عن ندمه ليس فقط لقبوله التفاهم مع باسيل، بل لانتخابه عون للرئاسة لأنه أحال سلطتها إلى صهره، ما ساهم في إيصال البلد إلى ما هو عليه من تردٍ وانهيار اقتصادي.
أما حلفاء عون وباسيل المقربون، فإن أبسط ردود الفعل لديهم عن الأضرار التي ألحقتها بهم وبالبلد سياسة عون – باسيل هي هز الرأس يمنة ويسرة، تحسراً. وبعضهم لا يخفي إخفاقه في محاولة إقناع الإثنين بوجوب تغيير سياستهما.
في وقت الهدف المعلن للقاء بعبدا خفض التوترات الطائفية والمذهبية التي حصلت في الأسبوعين الماضيين، أمعن باسيل قبل 5 أيام من لقاء بعبدا، في استحضار اللغة الطائفية المغلفة بالشعارات الإصلاحية في ملف الكهرباء، فاستحضر لغة انقسامات الحرب الأهلية وذكراها حين أخذ يتحدث عن “مناطقكم” وعن “مناطقنا” في تبريره الإصرار على معمل سلعاتا للكهرباء، (في منطقة مسيحية) لتبرير العودة إلى نغمة “استعادة الحقوق المسلوبة” قافزاً فوق الوقائع التاريخية بأن بناء المعامل الأخرى توزعت على الساحل اللبناني بمنطق الحاجة لإنتاج الطاقة وليس بدافع تزويد طائفة بذاتها…
ألم يحرق باسيل ورقة الصفة الوطنية للقاء أيضاً؟