«فؤاد ما تسليه المدام
وعمر مثل ما تهب اللئام
وما أنت منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
أرانب غير أنهم ملوك
مفتّحة عيونهم نيام»
(المتنبي)
قد يستغرب كثيرون اعترافاتي اليوم بأنني كنت في يوم من الأيام عونيّاً!
لم يكن عندي في أي وقت من الأوقات وَهم بأنّ عسكريّاً ما يصلح للعمل السياسي، وأظن أنّ تجارب العالم الثالث مع الضباط الذين أتوا إلى سدة الحكم على الدبابات، وتحت رايات الثورة والوطنية والتحرر من الاستعمار، كانت سبباً وجيهاً لنفوري منهم في مواقع السلطة السياسية.
لكن السؤال هو: كيف كنت عونيّاً ومتى؟
فبعد مضي عقد ونصف من الزمن على الحرب الأهلية، عشت مع غيري التجربة الكارثية لأحزابنا الوطنية، المتحالفة مع الثورة الفلسطينية، وكنتُ من المشاركين فيها لفترة من مراهقتي. إلى أن أتى اليوم الذي تحوّلت فيه أحزاباً مذهبية، فهجرتها بالكامل. عندها، أدركت أنّ العيش في الفوضى المفتوحة لغياب السلطة الشرعية أمر لا يتناسب مع العيش الحر الكريم، بل هو أشبَه بالحياة بلا روح، عندما كان أصغر تافه وحشّاش وشلمسطي يتحكّم بأرواح حملة الشهادات وغيرهم من الناس المسالمين. كانت الحياة في ظل الميليشيات محصورة فقط بمحاولة البقاء على قيد الحياة، أو بالبديل الأسوأ، أي بالمشاركة في حفلات الجنون والقتل، وفقدان الروح البشرية، واستبدالها بروح الضباع. وما زاد في الطين بلّة هو إدراكي أنّ القوات السورية التي احتلت لبنان، وأتت لتعيد النظام والدولة، أصبحت هي ذاتها ميليشيا مسلحة أخرى، وأسوأ أنواعها بالتأكيد. وأتت الطامة الكبرى عندما حصلت مؤامرة «حرب العلمين» في شوارع بيروت الغربية، بين حركة «أمل» و»الحزب التقدمي الاشتراكي»، يوم كانت وظيفة «أمل» اغتيال الأمل، ووظيفة «الاشتراكي» الاشتراك في سرقة الناس والاستلباص على أرزاقهم. وكان المخرج من استباحة هؤلاء لبيروت، هو بعودة عسكر المخابرات السورية! وكان أهل بيروت يومها، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
هذا لا يعني أنّ الوضع في المناطق التي كانت تحكمها الميليشيات المسيحية كان أفضل. فباعتراف قادتها الذين راجعوا أنفسهم وحاكموها حول تلك التجربة، فإنّ حروب الشوارع لم يكن ليخوضها إلّا من فقد الرجاء في إنسانيته، وهم عادة من يتحوّلون بساديّتهم وتوحّشهم في وجه «الأعداء»، مُثلاً عليا لجماعتهم، كلما ازداد عدد ضحاياهم كلما ازدادت مراتبهم.
حركة العماد ميشال عون أيام حربنا الكارثية، والتي تحوّل فيها القتلة من كل جانب أيقونات، كانت بمثابة بريق أمل لبعضنا، ممّن ضاقوا ذرعاً بكل أشكال الميليشيات، من «وطنية وانعزالية»، «إسلامية ومسيحية»، «يسارية ويمينية»، «متحالفة مع حافظ الأسد أم مع أرييل شارون»… كلهم أصبحوا العدو نفسه للناس وهو الذي يمثّل الخوف على الذات وعلى العرض وعلى الرزق الحلال. فلا فارق إن كان مقتلك على يد أيّ منهم، ففي النهاية أنت قتيل، ولا فارق إن اعتدى على كرامتك أيّ منهم، ففي النهاية كرامتك أهينَت، ولا فارق إن خرب لك بيتك أرييل شارون أم حافظ الأسد، أو أيّ من أعوانهما، ففي النهاية خسرت جنى عمرك، ولا من يعين!
كيف صرتُ عونيّاً؟ إستدرجني، وأنا حامل الدكتوراه في الطب، واليساري العتيق، الخطاب الشعبوي ذاته الذي يستدرج من لا يفك الحرف، من يمين ويسار. «سأكسر رأس حافظ الأسد»، كلمة قالها الجنرال الشرعي، لِما تبقّى من جيش شرعي، في قصر الشعب؟ تغاضينا، وكنّا بالآلاف، عن الشعبوية الفاقعة في الخطاب، على أمل ضئيل في أن تعود الشرعية، وصرنا ننسج الآمال على أنّ العون سيأتي لعون من مكان ما. فتسللتُ من المنطقة الغربية، وأنا منتخب كرئيس للأطباء المقيمين في الجامعة الأميركية، للقاء رفاق جدد من الأطباء المناصرين للعماد عون في المنطقة الشرقية، وبدأنا نحضّر لإنشاء اتحاد للأطباء المؤيّدين للشرعية تحت لواء العماد الشرعي. وسَوّغنا للعماد حتى ما لا يمكن تسويغه، على أمل عودة الشرعية، وربما أيضاً بهدف تمريغ أنف من أذَلّنا على الحواجز السورية، التي وصل عددها إلى اثنين وسبعين، عندما كنا ننتقل مع عائلاتنا من بيروت إلى أعالي الباروك، ثم إلى البقاع والهرمل، وصولاً إلى عكار وطرابلس، في رحلة الخطر الدائم التي كانت تمتد لاثنتي عشرة ساعة. كان الواحد منّا يخاف من أن يَتشابه اسمه مع أي من المطلوبين للمخابرات السورية، وعندها كانت تبدأ البهدلة والجرجرة، وأحياناً الحشر في الدولاب، قبل التحقق من الأسماء… ومَن خَبر تلك الأيام المظلمة لا يمكنه أن يغفر يوماً لا لبشار الأسد ولا لأبيه، ولا لكل الطغمة التي استباحت أرواحنا وأذلّتنا تحت شعار الأخوة العربية.
لن أسترسل في تفاصيل ما حدث بالنسبة الى كوني عونيّاً حتى لا أدّعي البطولة، لكنّ تعاطفي مع الجنرال استمر حتى بعد أن هجر قصر الشعب، ولم أسأل عن التفاصيل. وحتى بعد أن عارضَ «اتفاق الطائف» لأنه لم يأت به رئيساً، اعتقدتُ أنّ ظلماً لَحق بالجنرال لكونه الأفضل لرئاسة البلاد. مع العلم أننا حتى عندما غازَله النظام السوري أيام «حرب الإلغاء»، ودعته صحيفة «تشرين» البعثية السورية «أن ميشال عون هو التوجّه غير الإسرائيلي في المنطقة الشرقية»، فتوسّمنا خيراً لاعتقادنا أنه أصبح في المعادلة الدولية التي ستفرض على النظام السوري وجوده كرئيس يؤسّس للاستقلال.
وبقيتُ أراهن على أنّ حراكه من خارج لبنان لزيادة الضغط على سوريا. ومن ثم برزت عملية إعادة لبنان إلى الخريطة التي أطلقها رفيق الحريري. إعتقدتُ، وتأمّلتُ أنّ الحراك الداخلي الإيجابي لتأكيد وجود لبنان، سيتكامل مع الحراك الخارجي يوماً ما في مشروع وطني قد يكون فيه بصيص أمل. وكنت، بصدق، أعتبر نَتعات العماد على وسائل الإعلام ما هي سوى تعبير عن صدقه وعفويته، أي تماماً كما يقول العونيون «غضباً مقدّساً»! وحتى عند عودته إلى لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كنت أعوّل على جبهة وطنية عريضة تضع السلاح غير الشرعي في قفص الاتهام وتُجبره على التسليم للدولة. كان هذا إلى أن التقيتُ بـ»ولي العهد» جبران باسيل للمرة الأولى، إبّان فعاليات الرابع عشر من آذار سنة 2005، يومها بالذات تمنّيت أن لا تكون اقتناعات الجنرال ومنطقه مثل صهره لأنني سأصاب بخيبة أمل. هذا ما يحدث عندما تُصادف شخصاً شديد الذكاء، سريع البديهة، لكن عديم الثقافة ويدور كلّ فكره وتصرفاته على الحقد والريبة الدائمة من الآخر. هذا ما جعلني أتأكد أنّ مجرد احتمال التفاهم مع شخصية من هذا النوع تصبح كمَن يضع يده في وكر عقارب.
هذا هو الجواب على من يقول انّ التفاهم السياسي قد يعود مع جبران.
سنوات صعبة وتفاصيلها مُتعبة، وقد يجعل السعي إلى السلطة ما هو غير ممكن أو منطقي ممكناً حتى وإن بقي غير منطقي. لكن، وبكل موضوعية، كان من المحتمل أن يغفر الجميع، أو معظمنا على الأقل، تقلّبات الجنرال السياسية، لو أنّ الوصول إلى السلطة حقق بعض الإصلاح وبدأ بالتغيير، حتى ولو كان في الإصرار على كتاب «الإبراء المستحيل».
خيبة الأمل هي في كَون كل تلك الأحلام سقطت في فخ الاستمرار في بيع السيادة من أجل محطة في سلعاتا، وحلم كرسي لـ»ولي العهد» لن يبقى تحته سوى العدم.