قاعدتان أساسيتان وضعهما رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل خلال اطلالته الصحافية المطولة التي عقدها يوم الأحد المنصرم، في سياق استعراضه موقفه من التكليف والتأليف الحكوميين:
أولاً، هو لن يشارك في الحكومة الجديدة. أعلن على نحو واضح لا لبس فيه “أنا شخصياً من زمان بطّلت معني بالوزارة وما عرفت كيف تحرّرت من عبئها الشخصي عليي”. وهذا يعني أنّ واحداً من أبرز الألغام التي كانت تواجه أجندة التأليف، قد سحب من التداول… إلا اذا كان باسيل بصدد المناورة. ومن يعرفونه جيداً يدركون أنّ الرجل مهووس بالمناورات، ولو المكشوفة. مع العلم أنّ هذا الفصل من المسار اللبناني، لا يشبه أي فصل سابق.
ثانياً، ربط مشاركة “التيار الوطني الحر” بالحكومة العتيدة بشروط محددة: الانتاجية والفعالية والإصلاح برئيسها وأعضائها وبرنامجها. واذا ما قصد أحداً في هذه القاعدة، فهو يقصد بطبيعة الحال رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري الذي كان يشكو منه العهد وباسيل، من قلّة الانتاجية.
ما يعني أنّ باسيل انطلق في الماراتون الحكومي، بجزرة التسهيل من جهة، وعصا رفض عودة الحريري من جهة أخرى.
حتى اللحظة، يبدو الحراك الحكومي مثقلاً بالتعقيدات الداخلية المتوارثة من الحكومات السابقة، فيما لا يزال المرشح الأبرز للعودة إلى السراي، أي الحريري معتصماً بالصمت، وسط تضارب إشارات ومعلومات حول مدى قدرته على تأمين غطاء دولي قد يساعده على تخطي الـ”أبوكاليبس” الاجتماعي والمالي والإنمائي، اذا ما نجح في تقديم تشكيلة حكومية تتناسب ودفتر الشروط الدولي، محمية بالتزامات القوى السياسية بالأجندة الإصلاحية.
وحدها أصداء المواقف الدولية التي عبّر عنها كل من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووكيل الخارجية الأميركي ديفيد هيل، تتردد في مطبخ التأليف الداخلي. قالت كل من باريس وواشنطن كلمتيهما، وتركتا اللبنانيين لقدرهم في التقاط مسؤوليهم تلك الإشارات التي تصب بالنتيجة في خانة واحدة: حكومة لا تشبه سابقتها، سواء لناحية مكوناتها أو أجندتها. لا بدّ لها أن تكون مدعومة من مجمل الطبقة السياسية، وتراعي مطالب الشارع وتطلعاته، ولديها هدف واحد وهو تطبيق الاصلاحات.
ولذلك، لن تكون تجربة التكليف والتأليف هذه، شبيهة بأي تجربة سابقة. يوم الرابع من آب الجاري، سقطت كل القواعد الكلاسيكية التي كانت تجوز في المرحلة السابقة. فقدت كل القوى السياسية، ولو بنسب متفاوتة، قدرتها على المناورة، وهوامشها في ممارسة الغنج والدلال في المطالب والحصص والحقائب. الجوع لم يعد على الباب، صار داخل البيت. الهيكل وقع، ولا ينقص سوى إعلان الهزيمة.
هكذا، يُستنتج أنّ “التيار الوطني الحر”، كغيره من القوى السياسية، فقد الكثير من أوراق قوته والتي استثمرها منذ بداية العهد خلال تكوين حكوماته الثلاث. لا بل قد يكون “التيار” أكثر من تكبّد الخسائر المعنوية ما يعني أن “مخزون الضغط” بات غير متاح أو بالاحرى شبه معدوم. ولذا، صار هامش المناورة ضيقاً جداً، إن لم نقل غير متوفر.
وبالتالي لا يمكن تخيّل سيناريو وقوف أي فريق على حلبة التعطيل تحت عنوان المطالبة بتوزير شخص أو بحقيبة وبعدد معين من الوزراء. صارت تلك القواعد، وفق المتابعين، من الماضي، وسيصعب على أي فريق الاستنجاد بها لتحسين موقعه التفاوضي أو مكانته في خريطة توازن الحكومة العتيدة. ومن يعتقد أنّ بإمكانه الركون إلى المقاربات العتيقة في تركيب الحكومة، فهو يضع نفسه أمام حائط مسدود، ولن ترحمه “ثورة الجياع”.
عملياً، يشكل المجتمع الدولي، واشنطن في الخلفية، وباريس في الواجهة، اللاعب الأول في تركيب الحكومة طالما أنّ الدعم الدولي هو وحده سيمنع البركان الاعتراضي من أكل الأخضر واليابس. ولذا لا بدّ من مواءمة ثلاثة عوامل أساسية، كما يقول المتابعون:
أولاً، المواصفات التي حددتها باريس وواشنطن لشكل وطبيعة الحكومة العتيدة.
ثانياً، التزام القوى السياسية بتلك المواصفات وبالأجندة الاصلاحية.
ثالثاً، أن تكون الحكومة مقبولة من الشارع.
ولذا يصبح اسم رئيس الحكومة مجرد بند ضمن تفاهم متكامل غير مباشر بين أطراف ثلاثة: المجتمع الدولي، القوى السياسية والشارع. ولذا يحاول الحريري، كما يؤكد المطلعون تأمين ضمانات القوى الداخلية، بعدما وضع تكليف الثنائي الشيعي في جيبه، قبل السعي لتأمين الغطاء الدولي وتحديداً الأميركي. وعليه يصير السؤال: كيف سيتعاطى “التيار” مع هذا الاحتمال؟
يقول المطلعون إنّه اذا كانت هناك من فرصة جدية لتأليف حكومة منتجة ومحمية من الخارج وقادرة على وقف الانهيار، فسيكون “التيار” حكماً معنياً بالمشاركة فيها وفق المعيار الذي سيوضع لمشاركة بقية القوى السياسية. هو أصلاً لا يملك ترف الجلوس في صفوف المعارضة فيما يستعد العهد لاطفاء شمعته الرابعة استعداداً لدخول عامه الخامس. اذاً هي الفرصة الأخيرة للعهد، ولا يمكن “للتيار” البقاء متفرجاً أو معرقلاً، وهو الذي تعرض أكثر من غيره لضغط الشارع خصوصاً بعد وقوع زلزال المرفأ.