القطع مع «حزب الله» لن يُكسبه الكثير.. ماذا عن الغزل بالحريري؟
ربما اعتقد كثيرون قبل أيام ان رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل سيفجر قنبلة من العيار الثقيل في مؤتمره الصحافي الأخير ليست اقل من الانسحاب من تفاهم مار مخايل مع «حزب الله». إلا أن من تابع تفاصيل العلاقة بين الجانبين منذ زعامة العماد ميشال عون للتيار حتى هذه اللحظة، يتيقن ان هذا الامر بعيد المنال، أقله في المرحلة الحالية.
لكنها من دون أدنى شك المرحلة الأسوأ في العلاقة التي تعود الى ما قبل تفاهم 6 شباط 2006، والتي أسبغ عليها ذاك الاتفاق سمة التحالف الذي خرق عهد الخصام الماروني الشيعي الذي ترجم تقاتلا بين أقطاب في الطائفتين، وللتذكير، حدث ايضا، وان لم يكن على نطاق واسع، بين «حزب الله» والجنرال ميشال عون خلال صعوده الدراماتيكي في العام 1989 حين شن «حرب التحرير» على اخصامه في المنطقة الغربية حين عرفت اصطلاحا بذلك للدلالة على الجانب المسلم من بيروت في مقابل جانبها المسيحي في المنطقة الشرقية..
يبدو ان العلاقة تشهد منحى اعتراضيا وتراجعيا من قبل التيار، وفي شكل سريع ومضطرد يظهر واضحا لدى قواعد التيار أكثر منه لدى القيادات التي ما زالت تراعي الحليف ولا تريد كسر الجرة معه، سواء لمصلحة ذاتية لعلمها بأهميته للتيار، أو لأمر مبدئي يتصل بأسس تفاهم مار مخايل.
لكن التيار الذي يتعرض لانحدار كبير، وإن كان غير واضح الدراماتيكية، في شعبيته، يبدو محشورا في الزاوية ومفتقدا للحلفاء الجديين، الا انه يتمتع بتأييد شريحة لا بأس بها في بيئة الحزب الذاتية كما في أوساط الممانعة الساخطة على الفساد وعلى عموم الطبقة السياسية التي هيمنت على المشهد السياسي في ذاك المحور.
وبعد ان حقق العونيون مكسبهم الأهم في وصول العماد عون الى الرئاسة العام 2016، بدا ان ذلك كان ابعد ما يكون عن الطوباوية وان العود ما زال طرياً في وجه منظومة سياسية أكثر خبثا في العمل السياسية وتمرسا عبر السنين، في موازاة إخفاق واضح للعهد في الادارة وجوع ظاهر الى المحاصصة مع الطبقة السياسية نفسها التي وصل الى الحكم بادعاء مواجهتها.
كان الأمر كذلك فعلاً، فقد دخل باسيل في تلك المحاصصة مع أخصامه في البلد الذين لطالما انتقدهم وهاجم استئثارهم في الحكم، مثل وليد جنبلاط وأيضا شريكه في الحكم قبلا الرئيس سعد الحريري وحليفه السابق سليمان فرنجية، لا بل ان تفاهم معراب نفسه مع «القوات اللبنانية» لحظ ذلك!
لكن الأمنيات في حكم هادىء وعودة الى زمن ما قبل الطائف أو أقله التخفيف من آثار الاتفاق الذي حاربه ميشال عون في لبنان وفي مرحلة نفيه السياسي وحتى بعد وصوله الى الرئاسة، سقطوا جميعا أمام دهاء وخبث منظومة الحكم التي يتهم العونيون الرئيس نبيه بري بتصدر مُفشلي العهد عبرها.
تحضر أسماء اخرى هنا مثل رياض سلامة وسمير جعجع و«ثورة السفارات» لكن رئيس المجلس هو المايسترو الذي اتخذ العونيون قرارا بتحديده هدفا لهم منذ الصيف الماضي وشرعوا في هجمات تصاعدية عليه ليس الهجوم الباسيلي الاخير آخر تجلياته.
الترويض بدل إسقاط الحلف؟
يهدف التيار من وراء ذلك الى ضرب تحالف بري مع «حزب الله»، ليس في سبيل اسقاطه وهو ما يبدو بالغ الصعوبة، بل لترويض حركة «أمل» والسيطرة على بري، ذلك ان تحالف «حزب الله» مع بري لا ينفي مسؤولية الحزب في محاربة الفساد وبناء الدولة، أي التمايز على أقل تقدير عن بري و«أمل»، مع تأكيد التيار أن الحزب لم يشرع جدياً في الاصلاح على الاطلاق.
ثمة أهداف قريبة الأمد وأخرى بعيدة لخطاب باسيل الذي لم يحدد مطالب معينة للحزب، بل اكتفى بالشكوى من حليفه على طريق تحقيق أماني الرجل.
ويرى رفيق سابق له في مرحلة النضال وخصم حالي، أن رئيس التيار الوطني الحر يضغط لعودة الحكومة الى الاجتماع للظفر بأكثر قدر من التعيينات، لكنه لن ينال مراده من قبل شركائه في الحكم، ولا يتعلق الامر ببري وحده، بل برئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبالحزب نفسه. ولذلك فقد وضع باسيل اهدافا متوسطة الامد تتصدرها الانتخابات النيابية حيث يواجه باسيل تحديا من نوع خاص والتيار بطبيعة الحال.
والحال ان باسيل بالكاد يتمكن من التوصل الى حاصل انتخابي في دائرته وهو مجبر على صياغة تحالفات دقيقة، الا انه فقد حلفاء الماضي في دائرته الشمال الثالثة مثل «تيار المستقبل» وميشال معوض، وقد يحصل على اصوات القوميين او غيرهم لكن البعض يردد بإمكانية عزوف باسيل عن الترشح في حال أظهرت التقديرات عدم نجاحه، فهو لا يستطيع تحمل اية خسارة فقد يقامر حينها بضرب مستقبله السياسي برمّته..
هكذا يقول أخصام الرجل الذي يجهد اليوم لشد العصب عند المسيحيين باستخدام مصطلحات طائفية تدغدغهم، في موضوع بري في مواجهة رأي عام مسيحيي يهاجم «حزب الله» بوصفه الخطر الاكبر على البلد. وللملاحظة وجّه باسيل، وعون قبله، سهامهما ضد ميقاتي، لكن الجديد تمثل في غزل متجدد بالحريري وربما رهاناً عليه وسط قحط الحلفاء..
ثمة من يقول إن قرار باسيل والرئيس عون بالخروج من التفاهم مع «حزب الله» لن يكسبهما الكثير في الشارع المسيحي، والحفاظ على التفاهم – التحالف هو أفضل لهما للظفر بمقاعد نيابية في بعض الدوائر التي سيخسر فيها التيار نوابا له.
الكلام هنا مثلا عن بعلبك الهرمل وكسروان جبيل وبيروت الثانية وبعبدا، وقد يطلب التيار من الحزب مقاعد كانت محظورة عليه مثل ذلك الأرثوذكسي في مرجعيون، وهو ما يعتبره من حقه بعد كل التضحيات التي اودت بباسيل الى مستنقع العقوبات الاميركية واستبعاده فعليا، ان لم يكن رسميا، من التنافس الرئاسي بعد اشهر.
هنا يكمن المطلب متوسط الأمد من الحزب في موازاة كلام لافت لباسيل عن استنهاض التيار وسط خشية كبيرة من تراجع غير محدد في شعبيته. البعض يذهب الى انه سيتعرض الى هزيمة كبرى بنحو نصف مقاعده البرلمانية، والعونيون يؤكدون صحة تقديراتهم بتراجع غير وازن، ولذلك تبدو المزايدة مسيحيا لا سيما ما استجد منها في خطاب الرئيس عون الاخير حول لامركزية ادارية ومالية وحوار حول الاستراتيجية الدفاعية.
لكن كل ذلك قد لا يكون كافيا لباسيل، ولذلك فالمزايدة هذه مرشحة للاستمرار وللتصاعد في وجه «حزب الله» وصولا الى الاستحقاق الكبير المتمثل في رئاسة الجمهورية (المرشحة للفراغ).
مجاراة المزاج المسيحي
في الأثناء سيكون على باسيل العمل كثيرا وسط مزاج مسيحي ينحو في اتجاه التقوقع.
وللتذكير فإن الاقبال المسيحي على الانتخابات الماضية تراجع بمقدار ثمانية في المئة، واليوم يبدو المواطن المسيحي مهجوسا بلقمة عيشه وبعمله وباستشفائه وحتى بالهجرة، وباتت دعوات الفدرلة تلقى صدى لديه وإن شكلت استجابة غريزية غير واقعية لمفهوم غامض لدى المسيحيين مستحيل التطبيق اقله في الزمن الحالي، حسب قيادي مسيحي معارض لباسيل.
وبذلك، ومع التجربة، ثمة من يقول مسيحيا إن الرئيس القوي بات مصطلحا لا يؤيده كثر بعد ما جرى من حرب على الرئيس المسيحي القوي.
ذلك ان المسيحيين في حاجة الى رئيس تشاركي مع الآخرين في السلطة، فتحدي الآخر حتى المسيحي الخصم، أثبت عقمه في ظل صلاحيات محدودة مع دستور الطائف، حسب وجهة نظر الحزبي السابق في التيار. والأمر لا يتعلق برئيس شبيه بالياس الهراوي وبإميل لحود وبميشال سليمان، بل ربما برئيس مثل فؤاد شهاب والياس سركيس يؤمن بعلاقة تشاركية وبحكم المؤسسات على ان يكون عامل جمع لا تفريق..
لكن الأرجح ان الاقطاب الموارنة لن يقبلوا برئيس على هذا النحو، والصراع الماروني الذي ادى بالطائفة الى ما هي عليه اليوم وبهزيمتها وصولا الى اقرار اتفاق الطائف، سيستمر بأشكال جديدة وبتحالفات مع الاركان الاقوياء في الطوائف الاخرى، وبمدى اقليمي ودولي يعوض التراجع الديموغرافي والوزن المسيحي على أرض الواقع.
فالقادة الموارنة لم يتعلموا شيئاً من تجاربهم الأليمة الماضية!