خشى المراقبون السياسيون والديبلوماسيون، ان تكون الأزمة السياسية والحكومية تحديداً، قد باتت اسيرة مرحلة من الخواء السياسي والفراغ، ما بين خطاب الرئيس المكلّف سعد الحريري في 14 شباط، وردّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الاحد الذي تلاه. فلم تقدّم السيناريوهات المتداولة أي مخرج، في غياب الحديث علناً عن الوساطات الخارجية والداخلية في آن. وعليه، ما الذي يبرّر هذه المعادلة؟
ما بين 14 شباط و21 منه، مسافة اسبوع، إرتفع فيها منسوب الخطاب السياسي على خلفية ما كشفه الحريري من كواليس تشكيل الحكومة العتيدة، وردّ باسيل الذي رسم اكثر من علامة استفهام حول إمكان توليدها، بعدما توسّع بشروطه التي تجاوزت ما يقوم به الرئيس المكلّف الى بقية المؤسسات الدستورية، ولا سيما منها السلطة التشريعية التي رسم لها خريطة طريق، إن سلكتها يمكن ان ترى الحكومة النور.
ومن هذه المعادلة بالذات، بقيت رقعة التعليقات على مواقف باسيل محدودة، قياساً على عدد الرسائل التي وجّهها في اكثر من اتجاه في خطابه الى انصار التيار، الذي تجاوز فيه موقف الحريري الى «المجتمع المسيحي»، مستكملاً الحملة على البطريركية المارونية، ومنها في اتجاه الشخصيات والأحزاب المسيحية الأخرى، في محاولة أوحى من خلالها انّه بات «المدافع الوحيد» عن حقوق المسيحيين في لبنان والمنطقة. ولم يتردّد في تحميلهم مسؤولية عدم انخراطهم إلى جانبه في المواجهة مع الرئيس المكلّف، ومن خلاله مع السُنّة الراغبين «السطو» على صلاحيات رئيس الجمهورية، ملامساً في اتهاماته ما سمّاه «الحلف السنّي ـ الشيعي» – الذي اكتشفه وحده – لتطويق رئيس الجمهورية والحدّ من صلاحياته وتهميش المسيحيين مجدداً.
لم تكن مواقف باسيل لتحمل حلاً، هذا ما حسمته التطورات والمواقف التي تلت مؤتمره الصحافي، فبقيت ردّات الفعل محصورة بعدد من قيادات التيار الأزرق، بعدما عمّم الحريري عدم الردّ على ما جاء فيه، طالما انّه لم يلامس المواضيع «الجدّية» المطروحة، وفي اعتباره لا يحمل صفة الردّ في وجود رئيس الجمهورية الذي منحه الدستور حق تشكيل الحكومة بالمشاركة والتعاون معه، وتوقيع مرسوم تعيين رئيس الحكومة ومراسيم تشكيل الحكومة مع رئيس الحكومة. كما اقتصرت ردّات الفعل على بعض القيادات من الحزب «التقدمي الاشتراكي» ونوابه، ومجموعات متفرقة من السياسيين والحزبيين، فبقيت دون المستوى، رغم الحملة التي شنّها قادة التيار من نوابه الى عدد من المسؤولين والقياديين، الذي ذهبوا بعيداً في المواجهة المفتوحة مع الحريري حول ملف تشكيل الحكومة، وما عداه من الملفات الاخرى.
وعليه، لم يكن مستغرباً ان يأسف تكتل «لبنان القوي» في اجتماعه الاخير لـ»عدم صدور اي ردود ايجابية من المعنيين في عملية التأليف، تفتح ابواب النقاش المنطقي على المبادرة التي اطلقها رئيس التكتل، على قاعدة العدالة والشراكة، وعلى قاعدة الحكومة مقابل الإصلاحات». وفي الوقت الذي اعتبر التكتل انّ «تجاهل» المبادرة التي اطلقها رئيسه، انما يدلّ الى «الفارق بين الهمّ الوطني للتكتل وسعي الآخرين لتثبيت الهيمنة ووضع اليد على الحقوق». وهو امر لم يحمل جديداً، وخصوصاً انّه لا يستقيم. فما نقلته عشرات البيانات الصادرة عن قصر بعبدا وبقية القيادات الحزبية المحيطة بباسيل التي «نفت تدخّله في عملية التأليف»، أسقطت معظم الملاحظات والشروط التي طرحها، لأنّها صدرت عن جهة «غير صالحة» ولا علاقة لها بعملية التأليف. في وقت كاد فيه ان يُقدم رئيس الجمهورية، الشريك الدستوري والأساسي في عملية التأليف، وهو ما دفع الى إهمالها.
وما زاد في الطين بلّة، انّ باسيل وفريقه كانا ينتظران ردّة فعل رئيس مجلس النواب نبيه بري. فمعظم شروطه التي تضمنتها «المقايضة بين الاصلاحات والحكومة» ليست على عاتق الرئيس المكلّف، وهي من مهمّة مجلس النواب الذي عبّر رئيسه اكثر من مرة عن استقلالية السلطة التشريعية، رافضاً الزج بها في عملية التأليف قبل أن يأتي دورها في مناقشة البيان الوزاري لمنح الحكومة العتيدة الثقة، قبل القيام بأي مهمات أخرى تتصل بالتوليفة الحكومية. مع العلم انّ لبري، بصفته رئيساً لكتلة «التنمية والتحرير»، موقفاً مغايراً لباسيل من التركيبة الحكومية، ولا يجاريه في اي من شروطه. وقد سبق لبري ان طرح مبادرة اسقطها «فيتو» باسيل قبل ان تولد، الى درجة انّ كثيرين لم يفهموا بعد مضمونها والآلية التي تحدثت عنها. فكل ما فهمه اللبنانيون منها انّها تستبعد الحديث عن «الثلث المعطّل» في اي تشكيلة منتظرة، ولا ترى موجباً للنقاش في تخصيص حقيبة وزارة المال للطائفة الشيعية من دون ان تتوضح بقية الخطوات المقترحة.
اما على المستوى المسيحي، فقد بقيت مبادرة باسيل محط تشكيك، وان فضّل رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية عدم التعليق، على اساس «انّه لم يسمعها ولا يريد ذلك»، بقيت ردة فعل «القوات اللبنانية» محصورة بمواقف متفرقة، فيما رفض رئيس «الكتائب» النائب المستقيل سامي الجميل التعليق عليها من منطلق رفضه لما يؤدي الى اعتبار باسيل «مدافعاً وحيداً عن المسيحيين» في وجود «الرئيس القوي» للجمهورية في بعبدا والحضور المسيحي الفاعل في الحكومة ومجلس النواب. وهو في اعتقاده امر لم يكن متوافراً في اي مرحلة أخرى، فتسقط معه كل الإيحاءات بـ «هضم» حقوق المسيحيين و»تهميشهم». فما طاول «التيار الوطني الحر» ورئاسة الجمهورية من تهشيم وتهميش، مردّه الى الخيارات الفاشلة التي قادها داخلياً وخارجياً، وهي التي جاءت بالعقوبات الاميركية على رئيسه، وهو امر لا يطاول بقية القيادات والاحزاب المسيحية.
والى ذلك كله، فإنّ رئيس «الكتائب» يرفض الدخول من الباب الذي يتقنه باسيل و»التهجّم بالشخصي». كما يفعل في كل مناسبة يتوجّه فيها الى القيادات الكتائبية من منظار لا يلامس مواقفها وتضحياتها، ووفق مقاييس «ساقطة» لا يشاطره احد فيها. وهو امر ليس بجديد. فلو سمع بعض اطراف «تسوية 2016 السياسية» رأي «الكتائب» فيها وتوقعاتها حول مستقبلها وما يمكن ان تستجره على لبنان الدولة والمؤسسات والكيان، لما وصلت البلاد الى ما هي عليه، ولا كان الحصار على لبنان من كل الجهات وصولاً الى اركان السلطة المسيحيين منهم خصوصاً، ولو لم تحصل «نكبة مرفأ بيروت» لما زار لبنان احد من القادة الكبار ليذكّر بوجودهم.
واستناداً الى كل ما تقدّم، يمكن القول انّ حصر الأزمة التي تعانيها البلاد بما شهدته بين «احد الحريري» و»احد باسيل» خطأ كبير. وانّ من يسعى الى حصرها ما بين ثنائي «بعبدا ـ الشالوحي» و»بيت الوسط» خطأ اكبر. وتكبر الجريمة في اعتبارها بين السنّة والموارنة، بوجود اطراف يستظلها البعض. وما التشكيك بدور بكركي وتجاوزها في مخاطبة الفاتيكان للحديث عن «حقوق مسيحية ضائعة»، واتهام البطريرك بدور الوسيط بين «بيت الوسط» والمملكة العربية السعودية، سوى محاولة «يجب التحذير من تداعياتها الخطيرة على كل المستويات».