العهد يهدر فرصة ثمينة لإعادة تعويم نفسه من خلال تعطيل تأليف الحكومة الجديدة
أتاحت مبادرة الرئيس سعد الحريري قبول ترؤسه حكومة اختصاصيين استناداً للمبادرة الفرنسية، لإنقاذ البلد من حالة الانهيار الشاملة التي ينحدر إليها من كل القطاعات، فرصة مؤاتية ومهمة لإعادة وتيرة الحياة السياسية واحياء الأمل في المباشرة بحل الأزمة المالية والاقتصادية التي يُعاني منها لبنان حالياً والتخفيف قدر الإمكان من حجم الضغوطات المعيشية والاجتماعية التي يُعاني منها اللبنانيون.
كان الحريري يُدرك سلفاً حجم الصعوبات والتعقيدات التي تعترض مهمته في هذا الظرف بالذات، ولكنه بادر إلى كسر حلقة الجمود السياسي والمراوحة التي سادت بعد اعتذار السفير مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة الجديدة، مدّ يده إلى كل القوى السياسية على اختلافها، تعالى عن كل التراكمات السلبية ومعاناة سوء العلاقة مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل طوال فترة توليه رئاسة الحكومتين الأولى والثانية للعهد وما تخللهما من مسلسل طويل في عرقلة وتعطيل متعمد للمشاريع والخطط النهضوية للبلد، وما تلى ذلك من حملات مغرضة تعرض لها طوال العام الماضي لتحميله زوراً حالة الانحدار والفشل التي وصل إليها العهد، بكل فريقه وحكومته الخالصة.
تجاوز الحريري علاقاته الفاترة مع حلفائه السابقين، وواجه رفضهم بتوليه رئاسة الحكومة هذه المرة، لإظهار مدى استعداده لتحمل مسؤولية الانقاذ في اصعب الظروف، وللرد على بعض الخصوم بأنه لا يتهرب من ضغط الصعوبات مهما قست، كاشفاً نواياهم السلبية تجاه ما يحصل للوطن على حقيقتها.
لم تقتصر صعوبات مهمة الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة على الصراع السياسي بالداخل فقط، بل كان على معرفة واطلاع بأنها تتزامن مع تفاعل الصراع الإقليمي والدولي بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة والنظام الإيراني المحرك والداعم الأساسي لحزب الله، ما يؤثر سلباً أو إيجاباً في ملفات لبنانية مهمة، أكانت تتعلق بترسيم الحدود البرية والبحرية أو ملف تشكيل الحكومة الجديدة، كما ظهر ذلك في مناسبات سابقة وما قد يتبين لاحقاً في كيفية توظيف مسار تشكيل الحكومة المرتقبة في أي صفقة محتملة بين الولايات المتحدة وإيران، بعد ما بدأت تباشير التحضير للمفاوضات بين الطرفين مؤخراً بمواقف وتصريحات إيرانية لافتة على أعلى المستويات تمهد للمباشرة باطلاقها من دون مواربة.
مبادرة الحريري قبول ترؤسه حكومة اختصاصيين فرصة مؤاتية ومهمة لإعادة وتيرة الحياة السياسية وإحياء الأمل
ولذلك، بعد مرور أكثر من شهر على تكليف الرئيس الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة استناداً للمبادرة الفرنسية، ما تزال عملية التأليف تدور في حلقة المطالب والشروط التعجيزية التي يواجه بها الرئيس المكلف الذي ما يلبث ان يتفاهم مع رئيس الجمهورية على صيغة ما، حتى يُبادر صهر الرئيس النائب جبران باسيل إلى نسفها علانية، تحت شعارات وذرائع مزيفة وواهية، وكلها تصب في هدف المماطلة وتعطيل ولادة الحكومة وإبقاء البلد في حالة التأزم الحكومي والاهتراء الاقتصادي والمعيشي، بغطاء لافت من «حزب الله» الذي يراقب عن بعد ويدعو الطرفين لمزيد من التشاور بين المعنيين لحل مشكلة تأليف الحكومة وكأن ما يحصل لا يعنيه.
وهكذا يتضح يوماً بعد يوم مدى ارتباط ملف تشكيل الحكومة الجديدة بمجرى التفاهمات والصفقة الأميركية الإيرانية والتي قد تستغرق وقتاً طويلاً أكثر مما متوقع حالياً، وسيكتشف اللبنانيون مع مرور الوقت مدى الضرر اللاحق بهم جرّاء ذلك، لأن الوقائع تدحض كل الادعاءات والاقاويل السياسية التي تنفي حدوث هذا الربط وتسعى لاخفائه وتجاوزه بإلقاء مسؤولية التأخير بتشكيل الحكومة على الرئيس المكلف نتيجة ضغوطات أميركية وما إلى ذلك من حجج وذرائع مزيفة أصبحت مكشوفة ولا تخفي مسؤولية معطلي تشكيل الحكومة المعروفين.
الأهم بمجريات الأحداث، ان مبررات باسيل لتعطيل تشكيل الحكومة لم تعدل تقنع حتى المقربين، فيما الخصوم يعرفونه على حقيقته بالتلوي والتلون المتواصل، وبات التعطيل يراكم كماً اضافياً من المشاكل والأزمات التي باتت تضغط بقوة على كاهل المواطنين، فيما بدا واضحاً ان التعطيل المتعمد، بات يستهدف المبادرة الفرنسية والاجهاز عليها، بعدما بدأ يخف وهجها منذ اطلاقها على لسان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لبيروت، ولم تعد تنفع أساليب التذاكي والتقلب بالاستعداد لدعمها وتنفيذها.
بالطبع ما يحصل بات ينعكس سلباً على وضع البلد والناس، وفرصة الانقاذ المتاحة بدأت تتلاشى برغم تشبث الرئيس الحريري بها واستعداده المتواصل للسير قدماً بتنفيذها، مهما كانت العقبات والصعوبات، لأنها تشكّل فرصة ثمينة لا يمكن ان تتكرر مع استمرار فرنسا والعديد من الأصدقاء بمساعدة لبنان لتجاوز ازمته، ولا بدّ من مواجهة كل التحديات لابقائها على حيويتها المعهودة. ولكن في ضوء ما يحصل واستمرار مسلسل التعطيل على حاله، لن يكون الشعب اللبناني المتضرر الوحيد والأكبر جرّاء هذه الممارسات الممجوجة والمكروهة لأن انقضاء الوقت هباءً يقضم مزيداً من عمر العهد الذي بات يغرق بمزيد من الشلل والدوران على نفسه بمسلسل من الشعارات والوعود الرنانة دون طائل.
فكما شكلت مبادرة قبول الحريري مهمة تشكيل الحكومة الجديدة فرصة مهمة لإنقاذ البلد بداية، كذلك أتاحت المجال امام إعادة ترميم صورة العهد المتلاشية جرّاء سوء الممارسة والغرق في مستنقع التعطيل المتعمد لمسار الدولة عموماً، ويبدو ان العهد برمته قد أهدر هذه الفرصة الثمينة إذا استمر مسلسل التعطيل تشكيل الحكومة على حاله دون تعديل أو إعادة نظر موضوعية.