تسليط الأضواء على إحياء ثلاثي «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي» لم يكن عن طريق الخطأ أو الصدفة، إنما كان مقصوداً على رغم معرفة أصحاب القرار بأنّ إحياء هذا التحالف بصيغته القديمة غير ممكن لأكثر من سبب واعتبار.
الهدف الأساس من وراء الغبار السياسي حول التحالف الثلاثي، حرف الأنظار عن تحالف رباعي شقّ طريقه مبدئياً على أثر انتفاضة 17 تشرين، وخروج الرئيس سعد الحريري، ليس من الحكومة فقط، إنما بفك ارتباطه نهائياً بالحليف العوني، وعودته إلى الثلاثية القديمة – الجديدة المتمثلة بشخصه والرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط.
ويدور الحديث داخل بعض الأروقة السياسية، أنّ الرئيس ميشال عون لن يتمكّن من مواجهة الأزمة المالية، بسبب رفضه وحلفائه الشروع في إصلاحات تحدّ من سلطتهم ونفوذهم ومكاسبهم، فيما عدم إقرار الإصلاحات المطلوبة سريعاً يعني بأنّ الأزمة المالية ستواصل تدحرجها وتولِّد نقمة شعبية تعيد إنتاج السلطة كمدخل لتنفيس تعبئة الشارع ووضع البلد على سكة الإصلاح.
وفي هذا الجو، هناك من يعتقد انّ بإمكانه الاكتفاء بتسوية رئاسية جديدة تفرضها «الفوضى الشعبية»، من دون العبور إلى انتخابات نيابية مبكرة تعيد تشكيل السلطة للحدّ من نفوذ الأكثرية الحاكمة وسطوتها على مفاصل السلطة، بخاصة انّ «حزب الله» لا يريد الانتخابات النيابية، لإدراكه بأنّها ستفقده ورقة الأكثرية النيابية، التي يعوِّل عليها لمواصلة إمساكه بمفاصل السلطة، وتكشف ضعف حليفه المسيحي، وتعزِّز حضور خصمه المسيحي الاستراتيجي.
وما يدور همساً في الكواليس، انّ هذا الفريق يعتبر انّ بإمكانه إعادة عقارب الساعة إلى العام 2016، في ردّ انتقامي على انتخاب عون، من خلال التأكيد على إعادة انتخاب النائب السابق سليمان فرنجية، الذي يشكّل الضلع الرابع في التحالف الرباعي الجديد، وبالتالي يعوِّل هذا الفريق على المعطيات الآتية:
أولاً، احتراق ورقة النائب جبران باسيل الرئاسية محلياً وخارجياً. فعدا عن غياب أي جهة داعمة لانتخابه، يواجَه برفض شعبي عارم، إلى درجة انّ أي فريق يدعم خياره سيرتد عليه شعبياً، وبالتالي خروجه، تبعاً للمعطيات الحالية، من السباق الرئاسي.
ثانياً، صعوبة ان يعيد الدكتور سمير جعجع سيناريو دعم عون بدعم باسيل لأكثر من سبب، أهمها فشل التجربة وتراجع رئيس «التيار الحر» عن التزاماته وغياب الانسجام الشخصي والهوة السحيقة التي تفصل بين الطرفين، كما صعوبة تسويق خيار من هذا النوع، ولو على سبيل المناورة، فضلاً عن انّ باسيل هو الذي يجب ان يكون في موقع الداعم لترشيح جعجع لا العكس.
ثالثاً، لا يحظى باسيل بدعم «حزب الله» على غرار التزامه المعلن بعون، وانضمام الحزب إلى خيار فرنجية لن يرتد سلباً عليه بانتقال باسيل إلى الضفة الأخرى، لأنّ لا حليف داخلياً لرئيس «التيار الحر» أساساً، وهو بحاجة لتحالفه مع الحزب، وبالتالي يمكن لـ»حزب الله» ان يمون عليه وان يتعهّد له بأن يكون الضامن لدوره في مرحلة انتقالية يحتاج إليها باسيل ليعيد ترتيب أوضاعه.
ولا شك بأنّ «حزب الله» يفضِّل انتخاب رئيس حليف على انتخاب رئيس وسطي، في مرحلة مقبلة على تطورات إقليمية بعد الانتخابات الأميركية، وبالتالي لا يريد المجازفة بخيارات مع أشخاص تُكيِّف تموضعها ومواقفها وفقاً لطبيعة المرحلة وسياسات النفوذ، فيما الحليف يبقى مضموناً بمعزل عن تبدُّل التوازنات.
رابعاً، يشكّل التحالف الرباعي المضمر مبدئياً أقوى قوة محلية، بخاصة أنّ «حزب الله» هو الضلع الخامس غير المعلن في هذا التحالف، ولكنه يفضِّل ان يبقى خارجه ليتولّى دور إقناع باسيل وعدم استفزازه، وفي حال نجاحه يعيد الإمساك بالرئاسات الثلاث على قاعدة رباعية سياسية و»حزب الله» ضابط الإيقاع.
وفي هذا السياق بالذات، تُوجَّه الرسائل الودّية لرئيس «القوات» من أجل ترييحه، فيما هناك محاولة متجدّدة لوضعه أمام الأمر الواقع، في ظلّ توازن قوى، ومعادلة يعتقد أصحابها بأنّها مُحكمة من كل جوانبها، علماً بأنّ التجربة الرئاسية الحالية كان يُفترض ان تشكّل عبرة للبعض بأنّ انتخاب عون رئيساً للجمهورية تمّ بفعل تجاوز جعجع والتعامل مع الحيثية التي يمثلها وكأنّها غير موجودة.
وبمعزل عمّا يُخطّط له في الكواليس السياسية، يفترض بالقوى المعنية ان تدرك بأنّ الأمور لا تُطبخ بهذه السهولة في وضع لبناني معقّد والاحتمالات فيه مفتوحة على أكثر من خيار وتوجّه. وفي هذا السياق، يذكِّر البعض بمقولتين للدكتور جعجع: المقولة الأولى، بأنّه إذا كنتم لا تريدون إحياء التقاطع بين «القوات» و»التيار الحر» فلا تمسّوا بقانون الانتخاب الذي يجسِّد التوازن الميثاقي الذي لم يُحترم منذ العام 1990 ومن دونه يفقد لبنان مبرّر دوره ورسالته.
والمقولة الثانية، انّ اي بحث بإسقاط الرئيس عون، الذي لا تتمسّك به «القوات»، يجب ان يتضمّن البحث معها في الخطوة التالية بعد عون، وليس وضعها أمام الأمر الواقع الذي لا ترضى به إطلاقاً. وكما قلبت الطاولة في الانتخابات السابقة ستكرّر الموقف نفسه، وليس بالضرورة بانتخاب باسيل الذي لا حظوظ له، إنما بوضع فيتو مسيحي لن يكون من السهل تجاوزه.
وعلى رغم كل تلك الحسابات، لا يبدو انّ التحالف الرباعي الجديد ومن خلفه، يأخذ في الاعتبار احتمال ان تسقط كل الرهانات السياسية على وقع غضب شعبي غير مسبوق، يعيد خلط كل الأوراق، ويدفع لبنان إلى قعر الهاوية التي ستُدخل البلد في فوضى ما بعدها فوضى.
فالوقت اليوم ليس للحسابات السياسية، إنما لإخراج لبنان من الأزمة المالية، وحسابات من هذا النوع، إن صحّت المعطيات والتقديرات والمؤشرات، بعيدة عن الواقع المتصل بوجع الناس وغضبها، لأنّ البلاد ستكون مقبلة على ثورة حمراء لم يشهد لبنان مثيلاً لها، وثورة من هذا النوع ستؤدي إلى سقوط هيكل الدولة المتبقي وتُدخل البلد في وضع جديد من دون ضوابط وفي مرحلة مفتوحة ومن دون أفق، وترحِّل الحلّ فيه إلى توقيت التسوية الأميركية-الإيرانية.
فالمطلوب اليوم التحلّي بالحكمة لإنقاذ لبنان، والإنقاذ يتطلّب الشروع في إصلاحات فورية لا تحتمل التأخير، وفي حال عدم الإقدام على خطوات عملية فورية لا داعي للسؤال: هل كان يمكن تفادي سقوط الدولة في 13 نيسان 1975، لأنّ السيناريو ذاته يتكرّر اليوم بأشكال أخرى، على وقع رهانات وحسابات بعيدة عن الواقع ونبض الناس التي تريد التغيير الشامل وليس التجديد لأكثرية أوصلت البلد إلى الانهيار وصولاً إلى إسقاط صورية الدولة؟
فهل من يستدرك قبل فوات الآوان؟