IMLebanon

التفويض في القاموس اللبناني… فصل من غرائب الطائفية

 

 

مستهجن حقاً موقف الزعامتين المارونية والسنية، زعيم تيار المستقبل ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، عندما فوضا الثنائي الشيعي لتسوية أزمة تشكيل الحكومة المستعصية.

باسيل وجه نداء استغاثة للأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله داعياً إياه إلى الاضطلاع بدور الحَكَم في إيجاد حل لهذه المشكلة «يحفظ حقوق المسيحيين»، وبما يشبه قرار إذعان وتطويب له كمرشد للمسيحيين الموالين له عنوة أو عن مصلحة ناداه قائلاً: «يا سيّد حسن أعرف أنك لا تخذل الحق، أنا جبران باسيل من دون أن أحملك أي عبء أقبل بما تقبل به أنت لنفسك».

في المقلب السني، أعلن نجل الرئيس رفيق الحريري أن «سعد الحريري يعني نبيه بري ونبيه بري يعني سعد الحريري، المشكلة تكمن في من يضع العقبات أمام تشكيل الحكومة»، واصفاً رئيس مجلس النواب وحركة أمل الشيعية بأنه «الشخص الوحيد الذي وقف إلى جانبي منذ تكليفي ولم يتركني أبداً».

وبمعزل عن مدى حقيقة حجم تمثيل الحريري وباسيل للموارنة والسنة، يؤشر تفويضهما الثنائي الشيعي بهذا الشكل الفج إلى نجاح «حزب الله» بأخذ الاستعصاء السياسي في لبنان باتجاه الاستقطاب الطائفي الماروني السني وتجنب فتنة سنية شيعية، وجرّ البلد كما يريد نحو تغيّرات بنيوية جذرية على مستوى النظام السياسي، وكل ذلك في خضم انهيار اقتصادي ومالي واجتماعي هائل ووسط عزلة عربية ودولية غير مسبوقة.

ويؤشر ثانياً إلى حجم النفاق «التمثيلي» الممارس على اللبنانيين بطوائفهم كافة. فها هو ابن رفيق الحريري يستثير من جهةٍ العصبَ السني دفاعاً عن كرامة الطائفة وتمثيلها في المنظومة السياسية عبر كرسي رئاسة الحكومة وصلاحياتها، ويسلم من جهة أخرى خيوط اللعبة برمتها إلى طرف من طرفي الثنائي الشيعي سائراً عكس مزاج الشارع السني الذي يفترض أنه يمثله ومكرراً خطيئة التسوية الأولى عام 2016 التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية على صهوة حصان «حزب الله». هذا من دون الحديث عما يعنيه ذلك من جعل وضع السنة في لبنان يتماهى مع وضعهم في بعض دول الإقليم لجهة استهدافهم وتحجيم دورهم في دولهم الوطنية.

وها هو زعيم أكبر تكتل نيابي مسيحي يطلق من جهة يد نصر الله ليجد مخرجاً يحل الأزمة بالطريقة التي يستمزجها مسلّماً إياه مستقبل المسيحيين، ويحمل من جهة أخرى لواء استعادة حقوق المسيحيين والشراكة الحقيقية في الحكم والتمثيل الحقيقي. المدافع عن صلاحيات رئيس الجمهورية ومن خلفه موقع الطائفة المارونية في المنظومة السياسية، يمنح نصر الله دور الرئيس كحكم بين اللبنانيين! المدافع عن حقوق الأقليات في المنطقة ومواطنتهم يعيدهم إلى موقع الذمية!

الزعيمان اللدودان السني والماروني جيّرا حل الأزمة لزعيمي الطائفة الشيعية الطامحين لتوسيع نفوذ طائفتهما، وجيّرا مصالح وحقوق طائفتين كبيرتين من الطوائف اللبنانية إلى زعيمين يعجزان عن إصلاح منظومة مهترئة وتشكل توجهات أحدهما عاملاً أساسياً في استفحال الأزمة التي ترزح تحتها البلاد. هذا مع التشديد على أن ثمة جهات كثيرة في الطائفة الشيعية وازنة إنما مكبوتة، لا تعتبر أن تمثيل الطائفة هو حصر بيد الثنائي الشيعي، ولا تعتبر أن هذا التفويض هو للشيعة بقدر ما هو لـ«حزب الله» وحركة أمل.

ويؤشر ثالثاً إلى إتقان الثنائي الشيعي لعبة توزيع الأدوار في توليفة مركبة غريبة عجيبة، النشاز الأكبر فيها أن التيار الوطني الحر هو في الوقت عينه العدو الرئيس لحركة أمل والحليف الرئيس لـ«حزب الله». الثنائي، وخصوصاً «حزب الله»، متمسك بالحريري رئيساً للحكومة ليس لأنه الأكثر تمثيلاً سنياً فقط بل لأن تطويعه بات اليوم أسهل مع فقدانه الغطاء العربي بصفة عامة وإلى حد ما الدولي. لكن الحزب متمسك أيضاً بغطائه المسيحي أي بالتيار الرافض للحريري ولا يريده رئيساً لآخر حكومات العهد من دون أن يكون له فيها الثلث المعطل بما يعيد الأمور إلى تسوية 2016 ويضمن موقعه في الاستحقاقات النيابية والرئاسية المقبلة، لكنه هو أيضاً لا يريد فقدان تغطية الحزب له. أما الحريري فمتمسك برئاسة الحكومة العتيدة رغم كل المخاطر والصعوبات التي ستواجهها لأنها حبل النجاة الوحيد المتبقي له لتفادي الموت السياسي. وهو يريدها خارج تسوية 2016 عله يصلح مع دول الخليج ما أفسده الدهر. لكنه في الوقت عينه، لا يريد مواجهة الثنائي الشيعي لأنه على يقين بأنه جواده للفوز بها. وهنا التناقض! فهو سيستمر في تأمين الغطاء السني لسطوة «حزب الله»، علماً بأن هذا الغطاء بالتحديد هو من أهم أسباب البرودة الخليجية تجاهه والتي يسعى إلى إزالتها.

هذه التوليفة محيرة، لكنها مفهومة لمن يعي صعوبة تصديق أن معطل تشكيل الحكومة هو جبران باسيل وتياره بلا غطاء ودعم حليفه «حزب الله». فما يجري اليوم يصب في هدف «حزب الله» القديم – الجديد: عدم تشكيل حكومة إلا على قياسه ودفع البلاد إلى الانهيار الكلي لإعادة تشكيلها من الصفر وفق نظام جديد يضمن نفوذه ويعطي شرعية لسلاحه وسياساته. وهي مفهومة أيضاً لمن يعي أن هذه الطبقة السياسية رغم كل خلافاتها العلنية متفاهمة ضمنياً على أمر واحد: استمرارها واستمرار إمساكها بالسلطة حتى إنْ عنى ذلك التسليم حكماً بنتائج الانقلاب على النظام السياسي الذي بدأ تنفيذه فعلياً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005 وما تلاه من أحداث، وتسليمها تالياً بهيمنة الثنائي الشيعي، علماً بأنه جسدان برأس واحد هو نصر الله ومن ورائه ولي فقيه إيران، ولا نبالغ إذ نقول إن وسط استفاقة المجتمع الدولي على حقيقة أن لا فرق بين جناح سياسي وآخر عسكري لـ«حزب الله»، بات الأخير يستخدم حركة أمل كجناحه السياسي. وهي مفهومة أيضاً لمن يعي أن اللوحة المأساوية للبنان اليوم بتخلخل مفاصل دولته وانهياره التام هي اللوحة التي عمل الحزب على رسمها بجلد وصبر على مدى أربعة عقود تمكن خلالها من خلق «مجتمع مقاوم» يغرق الناس فيه بهموم الحياة اليومية جراء أزمات معيشية باتوا متأقلمين مع مقتضياتها على حساب وعي هموم الأحوال السياسية وخطورتها.

أمام هذا المشهد، كل الأطراف الباقية ساهية أو غائبة وتتلهى بتخريجات هذه المجموعة وتوليفاتها حول الصلاحيات والانتخابات ودورها بتغيير السلطة وانبثاق أخرى جديدة ومعالجة الفساد والإصلاح، بينما القيمون الحقيقيون أو المايسترو الفعلي للعبة السياسية في لبنان يدير العازفين على اختلافهم ويقودهم إلى حيث لا يريدون. من جهة أخرى، ورغم إدراكنا لأهمية دور المجتمع المدني في هذه اللحظات التاريخية وأهمية ديناميكيته، يؤسفنا القول إن الطفرة التي يشهدها والانبثاق الفطري المفاجئ لمؤسسات وهيئات وجمعيات، بات مرآة لشرذمة وفوضى توجهات الرأي العام ودليلاً على انهيار الهياكل السياسية ورافعة المشاركة السياسية لا سيما الأحزاب والنقابات. السؤال الأكبر كيف لهذه السلطة التي نصفها على لوائح الإرهاب وربعها على لوائح العقوبات وربعها الأخير منبوذ عربياً ومحاصر دولياً أن يفاوض المجتمع الدولي للخروج من أزمات البلاد؟